تاجُ صاحبةِ الجلالة يترنّح

17 يوليو 2020

صحيفة الغارديان البريطانية إلى الإستغناء عن 180 وظيفة (15/1/2028/Getty)

+ الخط -

كَثر الحديث في زمن كورونا عن مستقبل صناعة الصحافة في العالم، ولا سيما وقد كشف الوباء الطبيعي عن عمق المأزق الذي تعانيه هذه الصناعة، ويمس بنيتها وموقعها الاجتماعي، بوصفها السلطة الرابعة، ويطاول مستقبلها وقدرتها على البقاء على قيد الحياة. الأسبوع الفائت، أعلنت صحيفة الغارديان البريطانية أنها تخطط لإلغاء عدد من الوظائف التحريرية والتجارية، بسبب تحوّل القراء إلى الإنترنت لتصفح الأخبار، وتراجع عائدات الإعلانات بسبب تداعيات تفشي فيروس كورونا. وأوضحت أن خطتها ستطاول نحو 180 وظيفة، تحريرية، وإدارية في أقسام الإعلان والتوظيف والتسويق. وقالت رئيسة التحرير، كاثرين فاينر، إن الوباء عمّق أزمات الصحيفة، مع توقعات بانخفاض الإيرادات بأكثر من 31.5 مليون دولار.

صحيح أن الأزمة الراهنة لانتشار وباء كورونا، وما فرضه من إغلاق شبه تام للنشاط الإنساني، فاقما أزمات الصحافة، وهزَّ البنى الاقتصادية للمؤسسة الصحافية ووظيفتها، ما دفع صحفا نحو الإفلاس والإغلاق، أو الرضا بالخروج من المشهد الإعلامي المطبوع بشكل تام، والبقاء على قيد الحياة الإلكترونية فقط، إلا أنه من الموضوعي عدم جعل "كوفيد 19" علَّاقةً تُلقى عليها كل أزمات الصحافة، فبعض هذه الأزمات وُلد مع الصنعة ذاتها، وعمرها من عمر المهنة، وبعضها الآخر تكاثر بفعل عوامل موضوعية مرتبطة بمتغيرات المنظومة الاتصالية/ الرقمية الجديدة، والتحوُّل في سلوك المتلقي واتجاهه نحو الإعلام الرقمي. أضف إلى ذلك ترهّل النموذج الاقتصادي التقليدي لصناعة الصحافة، المُعتمد أساسًا على إيرادات المبيعات، وعائدات الإعلانات، وفي حالات كثيرة على دعم الدولة والأحزاب السياسية، أو التمويل غير المعلن من مراكز النفوذ وجماعات الضغط. 

أعادت منظمة "مراسلون بلا حدود"، التي تُصدر تقريراً سنويًا يُقَيم حالة الصحافة في العالم، الأزمات التي يمر بها قطاع الصحافة وتهدّد مستقبله إلى خمسة أسباب: الأزمة الجيوسياسية التي تُذكيها الأنظمة الديكتاتورية أو الاستبدادية أو الشعبوية أو القادة الطغاة، الذين يبذلون قصارى الجهود لقمع وسائل الإعلام وخنق المعلومات وفرض تصورهم الشخصي المتمثل في عالم خالٍ من التعدّدية والصحافة المستقلة، وغياب لوائح تنظيمية وأخلاقية متماشية مع العصر الرقمي وعولمة الاتصالات، ما أحدث فوضى إعلامية حقيقية، اختلطت فيها الصحافة مع أشكل أخرى من الممارسات الإعلامية مثل الدعاية والإعلان. ثم هناك تراجع الممارسة الديمقراطية في بلدان كثيرة، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، وما صاحب ذلك من ارتفاع منسوب العداء والكراهية ضد الصحافيين، حتى وصلت، في حالات كثيرة، إلى التصفية الجسدية. ويشير تقرير لمنظمة اليونسكو إلى زيادة بنسبة 18% في عمليات قتل الصحافيين في السنوات الخمس الماضية (2014 - 2018)، مقارنة بفترة السنوات الخمس السابقة. السبب الرابع يتعلق بتفاقم أزمة ثقة الجمهور في وسائل الإعلام المشتبه في نشرها أخباراً مشوبة بمعلومات غير موثوقة. وحسب النسخة الأخيرة من استقصاء إيديلمان تراست بارومتر، والذي يحلل مستوى ثقة الناس في المؤسسات على المستوى العالمي، أكد 57% من المستجوَبين أن وسائل الإعلام تنشر معلومات كاذبة. وأخيراً، تُرجع "مراسلون بلا حدود" السبب الخامس لأسباب الأزمة التي تواجهها صناعة الصحافة في بلدان عديدة، إلى التحوّل الرقمي المُتسارع. 

في ظل تراجع المبيعات وانهيار إيرادات الإعلانات وزيادة تكاليف الإنتاج والتوزيع الناجمة عن ارتفاع أسعار المواد الخام، علاوة على الأسباب التي أوردتها "مراسلون بلا حدود"، اختارت مؤسسات إعلامية الإغلاق، وفضلت أخرى "العمش على العمى"، مع الصمود والبحث عن شرايين دم تحمي حياة السلطة الرابعة، كما فعلت "الغارديان" الملتزمة، بتعبير رئيسة تحريرها، بالحفاظ على مجانية القراءة في الموقع، وعدم اتباع نموذج الاشتراك المدفوع، وبدلاً من ذلك، التوسع في نموذج توفير الإيرادات من تبرعات القراء. قد تكون هناك حلول بديلة، على غرار برامج "دعم القرَّاء" الذي تتحدث عنه كاثرين فاينر، آخر أمل لإنقاذ تاج صاحبة الجلالة.

AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.