29 يناير 2019
بين الشعلة والوردة مسافة رقصة
أحمد عثمان (لبنان)
قبل ثماني سنوات أحرق، محمد البوعزيزي، المجاز المعطل من أبناء سيدي بوزيد في أعماق تونس المهمشة، بإحراق جسده. وخلال ثماني سنوات شهدنا انتفاضات وثورات أشعلت المنطقة العربية، ولم ينج من ارتداداتها عواصم ومدن الكثير من دول العالم وصولا إلى وول ستريت.
ماذا لو لم تصادر الشرطة عربة الجر التي كانت مصدر رزق البوعزيزي؟ وماذا لو نام الرجل على جرحه ولم يذهب إلى الولاية يشكو ويتظلم؟ وماذا لو لم تهنه شرطية الولاية وتمنعه من تقديم شكواه؟ ثم ماذا لو كظم هذا الرجل ضيمه ولم يعمد إلى إحراق جسده احتجاجا؟
هل كانت البلدان والشعوب التي ثارت ستنجو من مآلات انتفاضاتها وردود أفعال قوى التسلط والاستبداد المحلية والعالمية التي جعلت من بعضها بددا ومن بعضها الآخر أشلاء يتناوشها أعداء ينتصرون بأوصياء أكثر حرصا على تأبيد وتأكيد واقعها الذي تحولت فيه حياة الناس إلى جحيم تتساوى فيه الرغبة بالموت بالرغبة في الحياة بل وتزيد؟
بالطبع لا. فشعلة محمد البوعزيزي لم تكن إلا الشرارة، فواقع المجتمعات كان كالهشيم الذي لن يمنع اشتعاله حينئذ مانع. وبالتالي، سواء كانت الشرارة من سيدي بوزيد أو من درعا أو من الصعيد المصري، فإنّ الانتفاضات والثورات كانت ستحدث بنفس الزخم والتوسع والارتدادات، وكان سيكون لها نفس المآلات.
المسألة ليست في سلوك فردي مهما كان مؤثرا ومهما كان تراجيديا، المسألة في تطابق حالة هذا الفرد وظروفه مع أحوال وظروف الملايين من البشر، أي في الظروف التي جعلت من لحظة إحراق البوعزيزي جسده لحظة تاريخية، وبالتالي جعلت من تلك الحادثة التراجيدية شرارة تشعل ثورة، بل ثورات على امتداد الساحات العربية شديدة الشبه بالساحة التونسية المعنية مباشرة بهذا الحدث. وبالتالي، فإن المسؤول الحقيقي عن انفجار تلك الانتفاضات، وتلك الثورات هي الأنظمة السياسية المسيطرة وسياساتها وسلوكياتها الاقتصادية والسياسية التي أوصلت تلك المجتمعات الى هذا المستوى من التردي معيشيا والقهر سياسيا ونفسيا ومارست الاضطهاد وكل صنوف الاستبداد بحقها.
والشعوب التي انتفضت وثارت لم تكن تثأر لمحمد البوعزيزي، بل كانت تريد تغيير واقعها، وأن تتمكن من بلوغ واقع يمكنها من الاستمرار، أي أنها لم تكن تطلب أكثر من شروط حياة عادية، فلا هي قدمت أحزابا ولا قوى سياسية جديدة بهدف التغيير السياسي، بل أكثر من ذلك، ففي سورية مثلا، كان المنتفضون أول الأمر يطالبون فقط بالعدالة لقتلة أطفال درعا وبتغيير سلوك النظام الأمني وتحقيق بعض من العدالة الاجتماعية، وكانوا يراهنون على روح الشباب عند "الدكتور" بشار الأسد!
لكن الحقيقة أثبتت أن تلك الشعوب لم تضع نفسها في مواجهة نظام استبداد محلي، بل وجدت نفسها في مواجهة نظام إقليمي ونظام عالمي يرفضان بالمطلق أي تغيير إيجابي في ظروف حياتها، بل يرفضان بالمطلق أن يكون لتلك الشعوب أي دور في تعيين مستقبلها أو تقريره. وهنا لا بد من التذكير بقولين هامين جدا، الأول للرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، حيث قال: "لا مفر من التغيير، ولكن علينا أن نحد من الأضرار المترتبة على التغيير قدر الإمكان". أما القول الثاني فكان لطوني بلير الذي علق قائلا: "إذا كان لا بد من التغيير، فعلينا أن نعرف كيف ندير عملية التغيير تلك".
هذان القولان لأكثر اثنين تأثيرا في النظام العالمي حينها، عبّرا بشكل صريح عن السلوك اللاحق لهذا النظام في مواجهة انتفاضات الشعوب، فكانت عملية الالتفاف على الثورة في تونس، وكانت عملية الانقلاب على الثورة في مصر، وكانت عملية إجهاض ثورة الشعب اليمني وأخذها باتجاه حروب لا علاقة لها بأي من أهداف هذه الثورة، وكانت الحروب الدموية التي قطعت أوصال ليبيا والحرب الدموية التدميرية على الشعب السوري، والتي كان الهدف منها وقف المد الثوري نهائيا نظرا لما تخللها من أشكال همجية غير مسبوقة أدت الى دمار المدن وتشريد السكان.
يعزز هذا الاستنتاج ما شهدته الساحة السورية من زج مئات الألوف من المقاتلين الغرباء وإتاحة الفرصة لهم للدخول إلى سورية لحماية نظام بشار السد من الانهيار أو لضرب الثورة من الداخل، فباتت الثورة بين ناري المليشيات الشيعية التي زج بها نظام الملالي في طهران، ابتداء بحزب الله اللبناني الذي لم تحاول أية جهة دولية أو إقليمية منعه من محو الحدود اللبنانية السورية أمام مقاتليه وأسلحتهم، وصولا إلى استجلاب آلاف المقاتلين الشيعة من أفغانستان وباكستان، مرورا بعشرات المليشيات العراقية، وكانت جميعها بقيادة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني. كل ذلك وأعين النظام الدولي وقواه ومؤسساته مغمضة حيال الأمر.
نعم، الشعوب تثور، ولا تنتظر أحدا، ولا تنتظر إذنا من أحد. فقط، حينما تصل الى النقطة الحرجة من انهيار أوضاعها فإنها ستثور، بغض النظر عن موازين القوة الراهنة وبغض النظر عن المآلات.
لقد انتفضت الشعوب وثارت من أجل تغيير واقعها. وطالما أن هذا الواقع لم يتغير إلى الأفضل، بل ازداد وسيزداد سوءا على سوء، فإن هذه الشعوب، مهما كانت قسوة المآلات التي بلغتها، فإنها ستعود لتثور مجددا، فهل فهمت قوى التغيير الحقيقية الدرس؟ وهل تنتظم استعدادا؟ وهل تتمكن من الانخراط وسط الجموع المضطهدة وتتلمس احتمالات ثورتها لتقوم بدورها المطلوب فيها؟
هنا الوردة، وهنا علينا أن نرقص.
ماذا لو لم تصادر الشرطة عربة الجر التي كانت مصدر رزق البوعزيزي؟ وماذا لو نام الرجل على جرحه ولم يذهب إلى الولاية يشكو ويتظلم؟ وماذا لو لم تهنه شرطية الولاية وتمنعه من تقديم شكواه؟ ثم ماذا لو كظم هذا الرجل ضيمه ولم يعمد إلى إحراق جسده احتجاجا؟
هل كانت البلدان والشعوب التي ثارت ستنجو من مآلات انتفاضاتها وردود أفعال قوى التسلط والاستبداد المحلية والعالمية التي جعلت من بعضها بددا ومن بعضها الآخر أشلاء يتناوشها أعداء ينتصرون بأوصياء أكثر حرصا على تأبيد وتأكيد واقعها الذي تحولت فيه حياة الناس إلى جحيم تتساوى فيه الرغبة بالموت بالرغبة في الحياة بل وتزيد؟
بالطبع لا. فشعلة محمد البوعزيزي لم تكن إلا الشرارة، فواقع المجتمعات كان كالهشيم الذي لن يمنع اشتعاله حينئذ مانع. وبالتالي، سواء كانت الشرارة من سيدي بوزيد أو من درعا أو من الصعيد المصري، فإنّ الانتفاضات والثورات كانت ستحدث بنفس الزخم والتوسع والارتدادات، وكان سيكون لها نفس المآلات.
المسألة ليست في سلوك فردي مهما كان مؤثرا ومهما كان تراجيديا، المسألة في تطابق حالة هذا الفرد وظروفه مع أحوال وظروف الملايين من البشر، أي في الظروف التي جعلت من لحظة إحراق البوعزيزي جسده لحظة تاريخية، وبالتالي جعلت من تلك الحادثة التراجيدية شرارة تشعل ثورة، بل ثورات على امتداد الساحات العربية شديدة الشبه بالساحة التونسية المعنية مباشرة بهذا الحدث. وبالتالي، فإن المسؤول الحقيقي عن انفجار تلك الانتفاضات، وتلك الثورات هي الأنظمة السياسية المسيطرة وسياساتها وسلوكياتها الاقتصادية والسياسية التي أوصلت تلك المجتمعات الى هذا المستوى من التردي معيشيا والقهر سياسيا ونفسيا ومارست الاضطهاد وكل صنوف الاستبداد بحقها.
والشعوب التي انتفضت وثارت لم تكن تثأر لمحمد البوعزيزي، بل كانت تريد تغيير واقعها، وأن تتمكن من بلوغ واقع يمكنها من الاستمرار، أي أنها لم تكن تطلب أكثر من شروط حياة عادية، فلا هي قدمت أحزابا ولا قوى سياسية جديدة بهدف التغيير السياسي، بل أكثر من ذلك، ففي سورية مثلا، كان المنتفضون أول الأمر يطالبون فقط بالعدالة لقتلة أطفال درعا وبتغيير سلوك النظام الأمني وتحقيق بعض من العدالة الاجتماعية، وكانوا يراهنون على روح الشباب عند "الدكتور" بشار الأسد!
لكن الحقيقة أثبتت أن تلك الشعوب لم تضع نفسها في مواجهة نظام استبداد محلي، بل وجدت نفسها في مواجهة نظام إقليمي ونظام عالمي يرفضان بالمطلق أي تغيير إيجابي في ظروف حياتها، بل يرفضان بالمطلق أن يكون لتلك الشعوب أي دور في تعيين مستقبلها أو تقريره. وهنا لا بد من التذكير بقولين هامين جدا، الأول للرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، حيث قال: "لا مفر من التغيير، ولكن علينا أن نحد من الأضرار المترتبة على التغيير قدر الإمكان". أما القول الثاني فكان لطوني بلير الذي علق قائلا: "إذا كان لا بد من التغيير، فعلينا أن نعرف كيف ندير عملية التغيير تلك".
هذان القولان لأكثر اثنين تأثيرا في النظام العالمي حينها، عبّرا بشكل صريح عن السلوك اللاحق لهذا النظام في مواجهة انتفاضات الشعوب، فكانت عملية الالتفاف على الثورة في تونس، وكانت عملية الانقلاب على الثورة في مصر، وكانت عملية إجهاض ثورة الشعب اليمني وأخذها باتجاه حروب لا علاقة لها بأي من أهداف هذه الثورة، وكانت الحروب الدموية التي قطعت أوصال ليبيا والحرب الدموية التدميرية على الشعب السوري، والتي كان الهدف منها وقف المد الثوري نهائيا نظرا لما تخللها من أشكال همجية غير مسبوقة أدت الى دمار المدن وتشريد السكان.
يعزز هذا الاستنتاج ما شهدته الساحة السورية من زج مئات الألوف من المقاتلين الغرباء وإتاحة الفرصة لهم للدخول إلى سورية لحماية نظام بشار السد من الانهيار أو لضرب الثورة من الداخل، فباتت الثورة بين ناري المليشيات الشيعية التي زج بها نظام الملالي في طهران، ابتداء بحزب الله اللبناني الذي لم تحاول أية جهة دولية أو إقليمية منعه من محو الحدود اللبنانية السورية أمام مقاتليه وأسلحتهم، وصولا إلى استجلاب آلاف المقاتلين الشيعة من أفغانستان وباكستان، مرورا بعشرات المليشيات العراقية، وكانت جميعها بقيادة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني. كل ذلك وأعين النظام الدولي وقواه ومؤسساته مغمضة حيال الأمر.
نعم، الشعوب تثور، ولا تنتظر أحدا، ولا تنتظر إذنا من أحد. فقط، حينما تصل الى النقطة الحرجة من انهيار أوضاعها فإنها ستثور، بغض النظر عن موازين القوة الراهنة وبغض النظر عن المآلات.
لقد انتفضت الشعوب وثارت من أجل تغيير واقعها. وطالما أن هذا الواقع لم يتغير إلى الأفضل، بل ازداد وسيزداد سوءا على سوء، فإن هذه الشعوب، مهما كانت قسوة المآلات التي بلغتها، فإنها ستعود لتثور مجددا، فهل فهمت قوى التغيير الحقيقية الدرس؟ وهل تنتظم استعدادا؟ وهل تتمكن من الانخراط وسط الجموع المضطهدة وتتلمس احتمالات ثورتها لتقوم بدورها المطلوب فيها؟
هنا الوردة، وهنا علينا أن نرقص.
مقالات أخرى
09 ديسمبر 2018
30 نوفمبر 2018
03 أكتوبر 2018