بين استبدادين
النضال من أجل حقوق النساء يستحق الاحترام، لكن مشكلة مجتمعاتنا العربية أعمق بكثير من موضوعة حقوق المرأة التي ليست سوى تفصيلة واحدة من مجموعة تفاصيل معقدة ومركبة، تطال مجتمعاتنا بكل مكوناتها، وتتمحور حول محور واحد وأساسي، هو الحرية، بوصفها مفهوم كبيراً وشاملاً ورحباً ومتعدداً، وبوصفها أيضا، قيمة سامية، لا يمكن أن تكتمل إنسانية الكائن البشري من دون تحققها، فلا يمكن الحديث عن الحريات السياسية، أو عن حرية المعتقد والتفكير، من دون تحقق شرط الحرية الفردية، حرية الكائن البشري الشخصية، المتعلقة بذاته فقط، كيف يعيش، وأين يعيش، ماذا يلبس، وماذا يأكل وكيف يربي أبناءه، وماهي القيم التي ينقلها لهم، حريته في الحب وحريته بامتلاكه جسده، حريته في التنقل والحركة، وحريته في الملكية أو عدمها، حريته في المحبة والكراهية والانتماء والولاء، حريته في أهوائه ورغباته، وحريته في ذوقه الخاص تجاه كل شيء، أما الضوابط التي تمنع الفوضى، فهي الضوابط الوضعية المدنية، الناظمة للمجتمعات، والتي تأخذ بالاعتبار حقوق الجميع، من دون تمييز فئة مجتمعية عن أخرى، ومن دون استعلاء فئة على أخرى، قومية كانت أو دينية أو طبقية أو جندرية، وهو ما يختصره، بالكامل، مفهوم المواطنة الذي لم تعرفه مجتمعاتنا العربية يوماً، ليس فقط بسبب الاستبداد السياسي، وإنما، أيضاً، بسبب الاستبداد الإجتماعي والديني، المتحالف مع السياسي والمكمل له، والذي يرى في الناس طبقاتٍ متفاضلة، لا بشراً متساوين في الحقوق والواجبات.
هذا التمييز والتفاضل والاستعلاء لم يمارس ضد المرأة فقط، وإن نالها النصيب الأكبر منه، بل مورس ضد الجميع، ضد كل مختلف عن النسق الذي فرضه الاستبداد، سواء أكان اختلافه نتيجة قرار معرفي، أو نتيجة مصادفة المولد والمنبت والانتماء. بهذا المعنى، ينبغي النظر إلى مسألة الحقوق من جوانبها كلها، لن تصبح المرأة سيدة حقوقها، ما لم يصبح الحق سيد المجتمع كله، ومع ما يحدث في بلادنا العربية منذ 2011، وبنسخه كافة، تبدو قضية المطالبة بحقوق المرأة، وسط هذا الخراب المعمم، ضرباً من ضروب الترف الاجتماعي، أكثر مما هو نضال حقوقي، وسيجلب للناشطات في هذا المجال اتهامات كثيرة بالانفصال عن الواقع، والقفز فوق المشكلة الأساسية المتمركزة بالاستبداد السياسي والطغيان. وعلى الرغم من أن هذا الاتهام قد يكون محقا في بعض جوانبه، كون ما تعاني منه المرأة، لاسيما في الدول التي تشهد عنفاً وصراعات وحروباً، يتجاوز بمراحل قضية حقوقها المدنية، لتصبح فكرة وجودها على قيد الحياة هي العرضة للتهديد بكل لحظة، إلا أن مطلقيه ينطلقون، في اتهامهم، من المبدأ المضاد لقضية حق المرأة، أقصد من مبدأ أن ما تطالب به الناشطات الحقوقيات من حقوق مدنية للنساء ليس أكثر من محاولة لنشر الفساد والفسق، بسبب الخروج عن الشريعة والدين.
حسب رأي هؤلاء، أنصفت الأديان السماوية المرأة بحصر دورها بالزواج والأمومة، وتبعيتها للرجل صون لها من الخطيئة ودرءٌ للفتنة. المشكلة مع هؤلاء، الآن، أن صوتهم هو الأقوى، كونه مسنود إلى حاملٍ، يكاد أن يكون الحامل الاجتماعي الوحيد لفئة كبيرة من البشر، فالعلاقة مع الأديان، اليوم، هي في أقصى حالاتها توهجاً وإعاقةً، في الوقت نفسه. هذا التوهج هو ما يزيد من قدسية النص الديني، المكتوب والمتناقل، والإعاقة هي ما يمنع العقل عن التبصر بما يمكن أن يسببه هذا التقديس، المبالغ فيه، من أزمات مجتمعية لا تنتهي، فكرة المواطنة مع هؤلاء هرطوقية، وما ينتج عنها هرطقة أيضاً. أما الحريات الفردية والجمعية، فلا تسبب سوى تفكك المجتمع، يكرس هؤلاء، بذريعة التماهي مع الحدث اليومي، منظومة الاستبداد القائمة حالياً، ويربطونها بمنظومة أخرى، تستمد عناصرها من الماضي السحيق، تجعل المجتمع كله يعيش في خراب الاستبدادين، لا المرأة وحدها.