بيلاروسيا: الاحتجاجات تحاصر آخر ديكتاتور في أوروبا

18 اغسطس 2020
عمّال بيلاروسيا يشاركون في التظاهرات (Getty)
+ الخط -

تتسارع وتيرة التطورات في بيلاروسيا، التي تشهد أكبر تظاهرات في تاريخها ضد حكم الرئيس ألكسندر لوكاشينكو، آخر ديكتاتور في أوروبا، وسط مؤشرات من داخل المصانع في البلاد تنذر بعصيان مدني واسع، احتجاجاً على تزوير نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 9 أغسطس/آب الحالي، وعنف قوات الأمن ضد المتظاهرين السلميين. وفي تطور لافت أعلنت المرشحة السابقة للانتخابات سفيتلانا تيخانوفسكايا استعدادها لأن تصبح "زعيمة وطنية" لإنقاذ البلاد، وكررت مطالب المعارضة بإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتنظيم انتخابات رئاسية حرة ونزيهة. وفي حين زادت موسكو من انتقاداتها لـ"النفاق" الغربي، وتدخلها في الشؤون الداخلية للدول، أكدت استعدادها لدعم لوكاشينكو عبر تنفيذ اتفاقات الدفاع المشترك بين البلدين، مع ما يوحي به هذا الأمر من احتمال التدخل عسكرياً. إلا أن ذلك لن يكون سهلاً، خصوصاً بعدما بدا أن التطورات وضعت الكرملين أمام خيارات صعبة في التعامل مع الاحتجاجات غير المسبوقة، ويمكن أن تتسبب في خسارة "ضلع" آخر في "المثلث" السلافي بعد خسارة أوكرانيا في 2014 (يضمّ الضلع روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وفق مفهوم الاتحاد السوفييتي السابق)، رغم أن الاحتجاجات لم تطرح، حتى الآن، أي شعارات معادية لروسيا. وانطلقت أمس الإثنين تظاهرات حاشدة في مينسك وباقي مدن بيلاروسيا، مع مواصلة المحتجين رفع شعاراتهم المطالبة بإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية، والدعوة لانتخابات نزيهة بمشاركة جميع المرشحين، ووقف انتهاكات وعنف قوات الأمن ضد المواطنين السلميين وحل قوات مكافحة الشغب الخاصة "الامون"، وتأمين الوصول الحر لمصادر المعلومات، إضافة إلى استقالة الرئيس لوكاشينكو واللجنة المركزية للانتخابات بتهمة تزوير الانتخابات الأخيرة. وفي سابقة تظهر مدى انكسار صورة الرجل القوي الذي يحكم بيلاروسيا منذ نحو 26 عاماً، وانتهاء عهد "الوصاية الأبوية" (يطلق على لوكاشينكو لقب باتوشكا أي الأب)، هتف عمال أحد المصانع في وجه لوكاشينكو بشعار "ارحل ارحل" أثناء إلقاء كلمة قلّل فيها من أهمية إضراب عشرات في هذا المصنع أو ذاك، وحاول مخاطبة العمال المضربين، بعد وصوله بمروحية إلى أرض المصنع.

قد تقبل روسيا سقوط لوكاشينكو لضمان كسب الشارع في بيلاروسيا

وأول من أمس الأحد، بدا واضحاً أن لوكاشينكو فقد السيطرة على معظم الشارع رغم محاولته تقديم تنازلات والركوع على ركبتيه "للمرة الأولى في حياتي" أمام نحو 60 ألفاً من أنصاره في مينسك. ويتمسك لوكاشينكو بنظرية "المؤامرة الخارجية" على حكمه المتواصل منذ 1994، ويرفض التنحي عن منصبه، متمسكاً بشرعية الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي يقول إنه فاز فيها بنحو 80 في المائة من أصوات الناخبين. وحضّ في خطابه الأحد أنصاره على "الدفاع عن البلاد واستقلالها"، وقال إن "قوات حلف شمال الأطلسي على أبوابنا. وليتوانيا ولاتفيا وبولندا وأوكرانيا تأمرنا بإجراء انتخابات جديدة". وزاد في خطاب لمؤيديه: "لم أخذلكم يوماً ولن أفعل ذلك". في المقابل حشدت المعارضة، الأحد، مئات الآلاف من المعارضين في العاصمة، إضافة إلى تظاهرات عمّت المدن البيلاروسية الأخرى، طالبت برحيل لوكاشينكو ومحاسبة المسؤولين عن العنف. ورغم أن السلطات أكدت عدم اعتقال أي من المتظاهرين، إلا أن مواقع المعارضة ذكرت أن أكثر من أربعة آلاف تم اعتقالهم مساء الأحد.

وفي رسالة عبر الفيديو من ليتوانيا، خاطبت تيخانوفسكايا أنصارها والمحتجين في الشوارع، ومع إشارتها إلى أنها لم تكن تنوي دخول عالم السياسة، أكدت مدرسة اللغة الإنكليزية وزوجة المعارض المعتقل سيرغي تيخانوفسكي، أن "القدر دفعني إلى الخط الأول في الصراع، وأنتم (المحتجون) وجهتموني ومنحتموني القوة بدعمكم". وشدّدت على أن جميع البيلاروسيين يريدون الخروج من هذه "الدائرة التي وقعنا فيها منذ 26 عاماً"، مؤكدة جهوزيتها "لتبني المسؤولية على عاتقي، ولعب دور الزعيم الوطني في هذه الحقبة من أجل أن تهدأ الأمور في البلاد، وتعود إلى نبض الحياة الطبيعي، ومن أجل إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وتحضير الظروف لتنظيم انتخابات رئاسية جديدة".

وانضم عدد كبير من عمال المصانع مساء الأحد وأمس الاثنين إلى الاحتجاجات، فأعلن عمال أكبر مصانع البلاد إضراباً عاماً مفتوحاً احتجاجاً على نتائج الانتخابات، ما يكشف تآكل شعبية لوكاشينكو في المؤسسات التي حافظ عليها وأنقذها من التأميم في تسعينات القرن الماضي، عكس ما حدث في روسيا وباقي بلدان الاتحاد السوفييتي السابق. وفي خطاب أمام عمال مصنع الجرارات في مينسك، يوم الاثنين، وفي مسعى لكسب العمال، رفض لوكاشينكو إعادة الانتخابات، محذراً من أن ذلك "يعني اختفاء المصانع والمؤسسات الإنتاجية العملاقة في البلاد، وسنقضي على كل شيء في غضون نصف عام". ودعا إلى إعادة توزيع السلطة من خلال العملية الدستورية، وليس عبر التظاهرات في الشارع. وساهم القمع غير المسبوق بحق المحتجين على نتائج الانتخابات الرئاسية في زيادة أعداد المتظاهرين وانضمام العمال إلى الاحتجاجات، وكبار السن في التظاهرات في جميع المدن البيلاروسية، وقُتل محتجان شابان. وعرضت وسائل إعلام معارضة صوراً لضحايا العنف غير المسبوق في بيلاروسيا، ما أثار حفيظة الشعب الذي عادة ما يوصف بأنه يتسم بالهدوء والجنوح نحو الهدوء وضبط النفس إلى أقصى درجة، مع الإشارة إلى أن بيلاروسيا شهدت أكبر عمليات "فدائية" ضد الجنود النازيين بعد احتلالها أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945).وبعد سلسلة استقالات واحتجاجات بين صفوف الإعلاميين، انضم عدد من قنوات التلفزيون الحكومي إلى المتظاهرين، وأظهرت بعض القنوات كراسي وآرائك فارغة كان يجب أن يجلس عليها مقدمو البرامج مع عزف موسيقى كلاسيكية. ووسط أنباء عن تحرك قوات من الحرس الوطني الروسي نحو بيلاروسيا وثّقتها مواقع روسية وبيلاروسية معارضة، تزداد احتمالات الانشقاقات عن المؤسسة الأمنية التي شكّلت درعاً لحكم لوكاشينكو، مع تعرضه لضغوط خارجية متواصلة، إذ طالب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الأحد، دول الاتحاد الأوروبي بـ "مواصلة التحرك" دعماً لـ "مئات آلاف" المتظاهرين. وذكر ماكرون في تغريدة عبر "تويتر" أنه "يجب على الاتحاد الأوروبي أن يواصل التحرك إلى جانب مئات الآلاف من البيلاروسيين، الذين يتظاهرون سلمياً في سبيل احترام حقوقهم وحريتهم وسيادتهم". في المقابل، ورداً على تصريحات ماكرون، اتهمت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا الرئيس الفرنسي بممارسة "النفاق بعينه"، وطالبت ساخرة في صفحتها على "فيسبوك" أمس، ماكرون بـ"توجيه الدعوة إلى دعم المحتجين في الاتحاد الأوروبي، وليس للتظاهرات السلمية في بيلاروسيا"، متسائلة: "متى سيطلب هو (ماكرون) من الاتحاد الأوروبي مواصلة التعبئة والوقوف، إلى جانب مئات الآلاف من ذوي السترات الصفراء الذين يسعون في تظاهرات سلمية إلى مراعاة واحترام حقوقهم وحرياتهم وسيادتهم؟ متى سيتوقف الاتحاد الأوروبي عن انتظار طلبات رؤساء الدول الأعضاء ويبدأ في التحرك في شكل استباقي لدعم الاحتجاجات في مجالاته؟".


التظاهرات تتسع في مينسك... ولوكاشينكو يجثو أمام أنصاره

ورغم أن لوكاشينكو اتهم أطرافاً في روسيا قبل الانتخابات بإرسال عناصر مرتزقة "فاغنر" إلى بيلاروسيا من أجل زعزعة الأوضاع، والتحضير لتظاهرات ضده، إلا أنه أطلق سراحهم بعد أيام، منتقلاً إلى نظرية "التدخل الأوروبي" وخطر حلف شمال الأطلسي، ثم اتصل مرتين بنظيره الروسي فلاديمير بوتين من أجل طلب العون. وأفاد الكرملين في بيان أن بوتين أبلغ لوكاشينكو بأنّ موسكو مستعدة لتقديم المساعدة، طبقاً لاتفاق عسكري إذا لزم الأمر. وأضاف، أن بيلاروسيا تتعرض لضغوط خارجية، لكن البيان لم يشر إلى الجهة التي تمارس تلك الضغوط. ومع خروج التظاهرات عن السيطرة، وانضمام مزيد من العمال إلى الاضرابات وموقف لوكاشينكو المتعنت، تجد موسكو ذاتها في موقف صعب للغاية، إذ تبدو عاجزة عن جمع المعارضة والحكومة على طاولة المفاوضات. كما أن التدخل العسكري لن يكون خياراً سهلاً نظراً لمعارضة الأطراف الخارجية، وعدم وجود تهديد مباشر على أمن بيلاروسيا يستدعي تدخلاً عسكرياً بمقتضى "اتفاقية الأمن المشترك"، الذي يخوّل القوات الروسية دعم بيلاروسيا عسكرياً في حال تعرضها لهجوم خارجي.

وظهر الحذر الروسي في بيان الخارجية الروسية منذ أيام، الذي شدد على أن روسيا "على قناعة بأن الخيار الذي قام به الشعب البيلاروسي سيسمح بمواصلة حل المهام الماثلة أمام الجمهورية، وسيساعد في تعزيز الصداقة بين بلدينا الشقيقين". وتزداد صعوبة تقدير الموقف بالنسبة للكرملين، لأن التظاهرات الحالية في بيلاروسيا لم ترفع شعارات معادية لروسيا، كما كانت الحال في تظاهرات ميدان كييف الأوكرانية عام 2014، أو في أثناء الثورات الملونة التي شهدتها بلدان من الرابطة المستقلة والتي كانت ترفع عادة شعارات للتحرر من هيمنة روسيا، والاقتراب إلى أوروبا، وربما ساهم أي تدخل روسي خشن في نقمة البيلاروسيين على موسكو. وتسببت تكتيكات ومناورات لوكاشينكو السياسية ومحاولاته الكسب عبر اللعب على تناقضات روسيا والغرب بغضب في موسكو، وتميزت العلاقات بمد وجزر رغم توقيع البلدين على اتفاق للوحدة لم ينفذ منذ عام 1999. وتوقع كثر تسليم روسيا بسقوط حليفها "المشاكس" كأهون الشرين ومحاولة كسب الشارع البيلاروسي المنتفض ضد "الأب". لكن الخطر الأهم، ربما يكون خشية الكرملين من تأثيرات سلبية لنجاح المعارضة البيلاروسية، ما يهدد بزيادة المزاج الاحتجاجي في روسيا ضد حكم بوتين، الذي عدل الدستور لضمان بقائه في الحكم حتى عام 2036.