تغيّر كل شيء اليوم عما كان سابقاً في الضاحية الجنوبية لبيروت. تلك المنطقة التي كانت ضيعاً ممتدة تلتف حول العاصمة، باتت مدينة بدورها تكاد تضاهي العاصمة سكانياً وعمرانياً. والحال نفسه في بيروت، فالأحياء القديمة بزواريبها وحاراتها تكاد تختفي بالكامل. أما العادات فاختفت ولم تبق منها إلاّ آثار لا أكثر.
الداخل اليوم إلى الضاحية تصادفه أولاً الحواجز العسكرية التابعة للجيش اللبناني وباقي الأجهزة الأمنية من كلّ مداخلها. فالمنطقة الممتدة من الأوزاعي غرباً إلى الحدث شرقاً، ومن حرج بيروت شمالاً إلى الشويفات جنوباً استهدفت بأكثر من تفجير إرهابي في السنوات الأخيرة، حصدت معها عشرات الأرواح.
شهر رمضان لم يعد كما كان عليه قبل الحرب الأهلية وفي بداياتها.. تلك الخمسينات والستينات والسبعينات التي كان له فيها طعم لا يضاهيه اليوم طعم. ذاكرة الأهالي تغرق في تلك اليوميات البائدة والعلاقات الاجتماعية الزائلة، التي يصعب تكرارها، مهما حاولوا، بل يستحيل في معظم الأحيان.
سكنت الحاجة أم أحمد في منطقة التحويطة في برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت عام 1968. كانت عروساً جديدة زفّت إلى أحد أبناء البلدة التي كانت تتحوّل إلى ما يشبه المدينة المصغرة بنشاطها الاقتصادي وعلاقاتها الاجتماعية. في تلك الأيام كانت حياة الناس ترتبط بالسيارات والدواب التي كانت تأتي بالبضائع المتنوعة، من مؤونة وأدوات مطبخ وملابس، عدا الخضار والفواكه والدجاج. وكانت هذه البضائع تتنوع أكثر في شهر رمضان لتشمل الجلاب وشراب الورد وقمر الدين والزبيب والحلويات. كلّها بضائع تمرّ في الأحياء وينادى عليها، وتنزل أم أحمد مع غيرها من النساء والفتيات ليفاصلن البائع في السعر ويؤمّنّ احتياجاتهن واحتياجات إفطار العائلة، كبرت أم صغرت.
وبالرغم من حديثها عن المسحراتي الذي كان يطرق كلّ بيت طرقاً، وينتظر "العيدية" نهار عيد الفطر، وبالرغم من تذكّرها مأكولات لا يمكن أن يعدّوها في رمضان، كالمجدرة مثلاً، فإنّها تستعيد ذاكرة أكثر خصوبة من حياتها في حيّ الظريف في بيروت في الخمسينات والستينات.
حيّ الظريف في بيروت
إفطار رمضان هناك كان يسبقه دائماً إطلاق المدفع في محلة تلة الخياط المحاذية. يتهيأ الجيران لرمضان بتزيين الحي بكامله زينة يدوية. أما البيوت فتنظف وتطلى واجهاتها. تتذكر أنّ البلدية كانت ترشّ المبيدات قبل رمضان مباشرة. والحملات الطبية الخاصة بوزارة الصحة تتفاعل أكثر وتنظم مخالفات بحق من لا يلتزم قواعد النظافة: "نقطة ماء لم تكن ترى في الطريق". تتابع أنّ متطوعي الصليب الأحمر كانوا يزورون المنازل ويكشفون على الأطفال خصوصاً، فإذا كان هنالك جروح في أجسادهم نظفوها ووضعوا لها الدواء اللازم، أما إذا كان هناك ما يستدعي استشارة طبيب أو الدخول إلى المستشفى فكانوا يتحدثون إلى الأهل من أجل ذلك ويكتبونه في تقاريرهم.
تتذكر الحاجة أم أحمد، وكان اسمها نجلاء فقط في ذلك الحين، أنّها صامت كما صام غيرها من الفتية والفتيات في سن السابعة، وليس ذلك من أجل أسباب دينية، بل لأنّ الحاج توفيق، الذي كان أكبر وجهاء الحي وأكثرهم نخوة، وعد كلّ طفل يصوم بدءاً من السابعة بخمس ليرات لبنانية عداً ونقداً يقبضها يوم العيد. هي ثروة في ذلك الثمن، فالركوب في سيارة أجرة يعادل ما بين خمسة قروش وعشرة، والليرة وحدها تساوي 100 قرش كاملة. هي ثروة كبيرة جداً بالنسبة للأطفال الذين تلزمهم "العيدية" في ركوب المراجيح وشراء الملبن والملبّس والكبيس في جنينة الصنائع. أما الأكبر بقليل فكانوا يغافلون أهلهم من أجل الوصول يوم العيد إلى السينما مع غيرهم من أبناء الحيّ. تتذكر أم أحمد أنّ والدها ضربها يوماً لأنّ صديقاً له أخبره أنّه رآها تدخل إلى السينما برفقة فتيات وفتية آخرين. وكانت يومها في الرابعة عشرة من العمر. لكنّها لم تتوقف عن ذلك، بل انتبهت أكثر كي لا يراها شخص آخر.
اقــرأ أيضاً
يخطر في بالها دائماً معيار التعايش بين كلّ الطوائف في الحي. لا تنسى أبداً غضب إحدى النساء من امرأة أخرى استنكرت أن تفطر لدى الأولى فتاة صغيرة من طائفة أخرى. قالت للمرأة يومها محاولة تطييب خاطر الفتاة ما استطاعت: "أنتِ ومن مثلكِ تدمرون سمعتنا.. ونحن طوال عمرنا لم نعرف التفرقة". كان يومها اللبنانيون يعرفون بالفعل التفرقة في بداياتها عقب ثورة العام 1958، الناصرية في جلّها، على حكم الرئيس كميل شمعون المدعوم من الأميركيين وحلف بغداد.
الإفطار لم يكن يعرف "النواشف" اللهم إلاّ اللحم المشوي الذي كان يحبه والدها في الإفطار واللحم النيء، أو "اللحمة المدقوقة" في السحور. والأخيرة كان يعزم عليها جيرانه الذين يستمتعون بطعمها. وتتنوع وجبات الإفطار بين جميع أنواع اليخنة، وكذلك اللحوم بالرز أو بالبرغل أو بالفريك. ويمتد إلى المغربية والأرنبية اللتين كانتا اختصاصاً بيروتياً لا مثيل له في مكان آخر.
في السحور كلّ جارة تجلب معها الأكل والفواكه. ودائماً تكون الحلويات زينة أيّ مادة. وهي حلويات منزلية الصنع كالمشبّك والنمّورة والصفوف والمفتقة والرز بحليب. وإذا كان رمضان شتاء فالسحلب الساخن جاهز دائماً مع الكعك من أجل الأطفال خصوصاً.
تتحدث عن جو الألفة الذي كان يعيشه الحيّ المختلط طائفياً. من ذلك أنّ "الجارات المسيحيات كنّ يلففن ورق العنب بأنفسهن تلالاً تلالاً ويوزعنه على المسلمات خوفاً عليهن من التعب". ومنه أيضاً أنّ والدها الذي كان يملك شاحنة لنقل البضائع، كان مرة أو مرتين خلال الشهر الكريم، يملأها بالبطيخ أو بالشمام، ويوزعها على كلّ سكان الحي من دون استثناء، بمسلميه من سنّة وشيعة ودروز وأكراد، ومسيحييه المتنوعين ويهوده. وكذلك كان الأمر عندما ينظم وجيه الحيّ إفطاراً سنوياً في أكبر جنينة (حديقة) منزلية فيه، فيشارك فيه الجميع إعداداً وإفطاراً بمختلف مللهم. وهو إفطار كان يحضره النائب أو الوزير الذي ترتبط أصوات السكان به عادة.
برج البراجنة
في الضاحية كان السحور يرتبط أكثر بالفرن الوحيد في الحي، فالجميع يعدّ المناقيش عنده، والمعروف عنها نوعان فقط لا كحال اليوم عشرات الأنواع. كانت المناقيش صعتراً وجبناً لا غير.
الفرن نفسه الذي تتحدث عنه أم أحمد بالقرب من الحي الذي ما زالت تسكن فيه حتى اليوم، يملكه الزوج الراحل للحاجة أم أنيس، البرجاوية الأصيلة. أم أنيس التي تقترب من الثمانين، تستعيد تلك الأيام وما قبلها بذاكرة حاضرة أحياناً ومختلطة بأحداث لاحقة في أحيان أخرى لا سيما الحرب.
تقول: "كنا في حيّنا والأحياء المجاورة لا نتجاوز 200 بيت. جميعنا نعرف بعضنا تقريباً". تشير إلى نقطة لا يعرفها الكثيرون عن المنطقة التي استقبلت الكثير من النازحين من الجنوب اللبناني والبقاع على مراحل مختلفة. وهي أنّ البلدة كانت مختلطة مذهبياً بشكل كبير ما بين الشيعة، وهم أكثرية، والسنّة والمسيحيين والدروز، وعائلات قليلة من اليهود أيضاً لم يبق من أفرادها أحد منذ عام 1967.
تقول إنّها تذكر من طفولتها المبكرة، أحد رجال العائلة الذي قدّم لكلّ أطفال الحيّ "عيديات". فكان الأطفال يصطفون جميعهم بملابس العيد، الفتيات في صف والصبيان في صف، وعندما يقتربون منه يأخذون ليرة حجراً، ويقبّلون يده.
اقــرأ أيضاً
أما عن الفرن، فتشير إلى أنّ زوجها شغّله طوال أربعين عاماً قبل وفاته. وبالرغم من أنّ أولادهم كانوا يعملون معه، فإنّهم أقفلوه عقب وفاة والدهم وهاجروا، وتركوها وحيدة إلا من ابنتيها اللتين لديهما الكثير من الأولاد والأحفاد أيضاً. كان زوجها يستقبل صواني ربات المنازل المختلفة من دجاج ولحم وسمك وطبخات منوعة، بالإضافة إلى إعداده الخبز والفطائر والمناقيش. وفي رمضان بالذات كان عمله يمتد حتى صلاة الصبح، ليعاود نشاطه ما بعد صلاة الظهر.
تشير إلى أنّ المنطقة كانت مشهورة بالليمون. ففي كلّ جنينة منزل شجر ليمون، وكلّ أرض تفصَل عن أرض شخص آخر بصفوف أشجار الليمون لا سيما الـ"أبو صفير" وهو المستخدم كنكهة في أطباق الفول والحمص. كما أنّ زهره يستخدم في إعداد "ماء الزهر".
وعن مأكولات وحلويات شهر رمضان والتكافل بين الجارات، تتذكر ميزة لم تعد موجودة منذ زمن بعيد، وهي التي تسميها "يوم الكاتو". فبما أنّ الكاتو، أي تلك الكعكة المطعمة بالفواكه والكريما، كانت نادرة جداً خارج أماكن محددة في قلب المدينة حتى، كانت النساء تخصص يوماً لصنع الكاتو للعائلة الفلانية ويوماً آخر لعائلة أخرى وهكذا، حتى يصل الكاتو إلى كلّ عائلات الحي قبل انتهاء الشهر.
ليمون للجميع
من جهته، يتذكر أبو فضل أنّه تمكن في بداية الستينات من الحصول على امتياز العمل على سيارة أجرة في مطار بيروت الدولي، القريب من المنطقة. كان يعمل ليلاً ونهاراً ويجني الكثير من المال. لكنّه يشير إلى أنّ ما كان يجنيه في رمضان "كان أكثر بكثير". حتى أنّ الركاب كانوا يمنحونه مالاً أكثر عندما يعرفون بصيامه.
بالنسبة له، لم يكن ملتزماً دينياً يومها، ولا بعدها. لكنّه كان يتوقف عن شرب الخمر في رمضان بالذات: "من أجل نيل بركات الشهر الكريم".
يتذكر أنّه كان يجلب كلّ ما تحتاجه عائلته، على عكس الجيران الذين ينتظرون البائعين، من "سوق النورية"، و"سوق الدجاج"، و"سوق الخضرة"، في وسط بيروت، أو ما كان يعرف يومها بالبرج. يقول إنّ تلك الأسواق كانت للفقراء والأغنياء على حد سواء.
ويتذكر عادة درج عليها جميع من في الحي الذي يسكن فيه في برج البراجنة وهي "إطعام غريب". والمسألة أنّ بعض الباعة الجوالين الذين يتأخرون عن منازلهم ولا يلحقون الإفطار مع أولادهم، كانوا يستضافون في بيوت الحيّ الذي يمرّون فيه، أكانوا من أحياء أخرى أم حتى غريبين بالكامل عن المنطقة.
أبو خالد (مواليد 1943) استمر حتى سنوات قريبة يبيع الجلاب في شوارع الشياح في الضاحية الجنوبية. لكنّه في شهر رمضان بالذات كان يبيع عصير الليمون بالقرب من ثكنة المضاد، وهي ثكنة قريبة من الضاحية وعلى مفصل طريق بيروت - الجنوب. هناك عمل قبل الحرب لعدة سنوات، وعاود نشاطه بعد الحرب ابتداء من عام 1991 حتى 1997.
يقول إنّه كان يجلب في رمضان كلّ يوم شاحنة ليمون صغيرة. يغسلها بالمياه المضغوطة مع الهواء في محطة محروقات قريبة، ويبدأ عمله الذي لا ينتهي إلاّ بانتهاء الليمون "المضيء" فوق عربته، كما يقول. ويتابع: "كنت في رمضان وحده أجني من الليمون ما قيمته 3 أشهر كاملة من عملي في الجلاب. وليس الليمون هو السبب بل رمضان شهر الخيرات كلّها".
اقــرأ أيضاً
الداخل اليوم إلى الضاحية تصادفه أولاً الحواجز العسكرية التابعة للجيش اللبناني وباقي الأجهزة الأمنية من كلّ مداخلها. فالمنطقة الممتدة من الأوزاعي غرباً إلى الحدث شرقاً، ومن حرج بيروت شمالاً إلى الشويفات جنوباً استهدفت بأكثر من تفجير إرهابي في السنوات الأخيرة، حصدت معها عشرات الأرواح.
شهر رمضان لم يعد كما كان عليه قبل الحرب الأهلية وفي بداياتها.. تلك الخمسينات والستينات والسبعينات التي كان له فيها طعم لا يضاهيه اليوم طعم. ذاكرة الأهالي تغرق في تلك اليوميات البائدة والعلاقات الاجتماعية الزائلة، التي يصعب تكرارها، مهما حاولوا، بل يستحيل في معظم الأحيان.
سكنت الحاجة أم أحمد في منطقة التحويطة في برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت عام 1968. كانت عروساً جديدة زفّت إلى أحد أبناء البلدة التي كانت تتحوّل إلى ما يشبه المدينة المصغرة بنشاطها الاقتصادي وعلاقاتها الاجتماعية. في تلك الأيام كانت حياة الناس ترتبط بالسيارات والدواب التي كانت تأتي بالبضائع المتنوعة، من مؤونة وأدوات مطبخ وملابس، عدا الخضار والفواكه والدجاج. وكانت هذه البضائع تتنوع أكثر في شهر رمضان لتشمل الجلاب وشراب الورد وقمر الدين والزبيب والحلويات. كلّها بضائع تمرّ في الأحياء وينادى عليها، وتنزل أم أحمد مع غيرها من النساء والفتيات ليفاصلن البائع في السعر ويؤمّنّ احتياجاتهن واحتياجات إفطار العائلة، كبرت أم صغرت.
وبالرغم من حديثها عن المسحراتي الذي كان يطرق كلّ بيت طرقاً، وينتظر "العيدية" نهار عيد الفطر، وبالرغم من تذكّرها مأكولات لا يمكن أن يعدّوها في رمضان، كالمجدرة مثلاً، فإنّها تستعيد ذاكرة أكثر خصوبة من حياتها في حيّ الظريف في بيروت في الخمسينات والستينات.
حيّ الظريف في بيروت
إفطار رمضان هناك كان يسبقه دائماً إطلاق المدفع في محلة تلة الخياط المحاذية. يتهيأ الجيران لرمضان بتزيين الحي بكامله زينة يدوية. أما البيوت فتنظف وتطلى واجهاتها. تتذكر أنّ البلدية كانت ترشّ المبيدات قبل رمضان مباشرة. والحملات الطبية الخاصة بوزارة الصحة تتفاعل أكثر وتنظم مخالفات بحق من لا يلتزم قواعد النظافة: "نقطة ماء لم تكن ترى في الطريق". تتابع أنّ متطوعي الصليب الأحمر كانوا يزورون المنازل ويكشفون على الأطفال خصوصاً، فإذا كان هنالك جروح في أجسادهم نظفوها ووضعوا لها الدواء اللازم، أما إذا كان هناك ما يستدعي استشارة طبيب أو الدخول إلى المستشفى فكانوا يتحدثون إلى الأهل من أجل ذلك ويكتبونه في تقاريرهم.
تتذكر الحاجة أم أحمد، وكان اسمها نجلاء فقط في ذلك الحين، أنّها صامت كما صام غيرها من الفتية والفتيات في سن السابعة، وليس ذلك من أجل أسباب دينية، بل لأنّ الحاج توفيق، الذي كان أكبر وجهاء الحي وأكثرهم نخوة، وعد كلّ طفل يصوم بدءاً من السابعة بخمس ليرات لبنانية عداً ونقداً يقبضها يوم العيد. هي ثروة في ذلك الثمن، فالركوب في سيارة أجرة يعادل ما بين خمسة قروش وعشرة، والليرة وحدها تساوي 100 قرش كاملة. هي ثروة كبيرة جداً بالنسبة للأطفال الذين تلزمهم "العيدية" في ركوب المراجيح وشراء الملبن والملبّس والكبيس في جنينة الصنائع. أما الأكبر بقليل فكانوا يغافلون أهلهم من أجل الوصول يوم العيد إلى السينما مع غيرهم من أبناء الحيّ. تتذكر أم أحمد أنّ والدها ضربها يوماً لأنّ صديقاً له أخبره أنّه رآها تدخل إلى السينما برفقة فتيات وفتية آخرين. وكانت يومها في الرابعة عشرة من العمر. لكنّها لم تتوقف عن ذلك، بل انتبهت أكثر كي لا يراها شخص آخر.
يخطر في بالها دائماً معيار التعايش بين كلّ الطوائف في الحي. لا تنسى أبداً غضب إحدى النساء من امرأة أخرى استنكرت أن تفطر لدى الأولى فتاة صغيرة من طائفة أخرى. قالت للمرأة يومها محاولة تطييب خاطر الفتاة ما استطاعت: "أنتِ ومن مثلكِ تدمرون سمعتنا.. ونحن طوال عمرنا لم نعرف التفرقة". كان يومها اللبنانيون يعرفون بالفعل التفرقة في بداياتها عقب ثورة العام 1958، الناصرية في جلّها، على حكم الرئيس كميل شمعون المدعوم من الأميركيين وحلف بغداد.
الإفطار لم يكن يعرف "النواشف" اللهم إلاّ اللحم المشوي الذي كان يحبه والدها في الإفطار واللحم النيء، أو "اللحمة المدقوقة" في السحور. والأخيرة كان يعزم عليها جيرانه الذين يستمتعون بطعمها. وتتنوع وجبات الإفطار بين جميع أنواع اليخنة، وكذلك اللحوم بالرز أو بالبرغل أو بالفريك. ويمتد إلى المغربية والأرنبية اللتين كانتا اختصاصاً بيروتياً لا مثيل له في مكان آخر.
في السحور كلّ جارة تجلب معها الأكل والفواكه. ودائماً تكون الحلويات زينة أيّ مادة. وهي حلويات منزلية الصنع كالمشبّك والنمّورة والصفوف والمفتقة والرز بحليب. وإذا كان رمضان شتاء فالسحلب الساخن جاهز دائماً مع الكعك من أجل الأطفال خصوصاً.
تتحدث عن جو الألفة الذي كان يعيشه الحيّ المختلط طائفياً. من ذلك أنّ "الجارات المسيحيات كنّ يلففن ورق العنب بأنفسهن تلالاً تلالاً ويوزعنه على المسلمات خوفاً عليهن من التعب". ومنه أيضاً أنّ والدها الذي كان يملك شاحنة لنقل البضائع، كان مرة أو مرتين خلال الشهر الكريم، يملأها بالبطيخ أو بالشمام، ويوزعها على كلّ سكان الحي من دون استثناء، بمسلميه من سنّة وشيعة ودروز وأكراد، ومسيحييه المتنوعين ويهوده. وكذلك كان الأمر عندما ينظم وجيه الحيّ إفطاراً سنوياً في أكبر جنينة (حديقة) منزلية فيه، فيشارك فيه الجميع إعداداً وإفطاراً بمختلف مللهم. وهو إفطار كان يحضره النائب أو الوزير الذي ترتبط أصوات السكان به عادة.
برج البراجنة
في الضاحية كان السحور يرتبط أكثر بالفرن الوحيد في الحي، فالجميع يعدّ المناقيش عنده، والمعروف عنها نوعان فقط لا كحال اليوم عشرات الأنواع. كانت المناقيش صعتراً وجبناً لا غير.
الفرن نفسه الذي تتحدث عنه أم أحمد بالقرب من الحي الذي ما زالت تسكن فيه حتى اليوم، يملكه الزوج الراحل للحاجة أم أنيس، البرجاوية الأصيلة. أم أنيس التي تقترب من الثمانين، تستعيد تلك الأيام وما قبلها بذاكرة حاضرة أحياناً ومختلطة بأحداث لاحقة في أحيان أخرى لا سيما الحرب.
تقول: "كنا في حيّنا والأحياء المجاورة لا نتجاوز 200 بيت. جميعنا نعرف بعضنا تقريباً". تشير إلى نقطة لا يعرفها الكثيرون عن المنطقة التي استقبلت الكثير من النازحين من الجنوب اللبناني والبقاع على مراحل مختلفة. وهي أنّ البلدة كانت مختلطة مذهبياً بشكل كبير ما بين الشيعة، وهم أكثرية، والسنّة والمسيحيين والدروز، وعائلات قليلة من اليهود أيضاً لم يبق من أفرادها أحد منذ عام 1967.
تقول إنّها تذكر من طفولتها المبكرة، أحد رجال العائلة الذي قدّم لكلّ أطفال الحيّ "عيديات". فكان الأطفال يصطفون جميعهم بملابس العيد، الفتيات في صف والصبيان في صف، وعندما يقتربون منه يأخذون ليرة حجراً، ويقبّلون يده.
أما عن الفرن، فتشير إلى أنّ زوجها شغّله طوال أربعين عاماً قبل وفاته. وبالرغم من أنّ أولادهم كانوا يعملون معه، فإنّهم أقفلوه عقب وفاة والدهم وهاجروا، وتركوها وحيدة إلا من ابنتيها اللتين لديهما الكثير من الأولاد والأحفاد أيضاً. كان زوجها يستقبل صواني ربات المنازل المختلفة من دجاج ولحم وسمك وطبخات منوعة، بالإضافة إلى إعداده الخبز والفطائر والمناقيش. وفي رمضان بالذات كان عمله يمتد حتى صلاة الصبح، ليعاود نشاطه ما بعد صلاة الظهر.
تشير إلى أنّ المنطقة كانت مشهورة بالليمون. ففي كلّ جنينة منزل شجر ليمون، وكلّ أرض تفصَل عن أرض شخص آخر بصفوف أشجار الليمون لا سيما الـ"أبو صفير" وهو المستخدم كنكهة في أطباق الفول والحمص. كما أنّ زهره يستخدم في إعداد "ماء الزهر".
وعن مأكولات وحلويات شهر رمضان والتكافل بين الجارات، تتذكر ميزة لم تعد موجودة منذ زمن بعيد، وهي التي تسميها "يوم الكاتو". فبما أنّ الكاتو، أي تلك الكعكة المطعمة بالفواكه والكريما، كانت نادرة جداً خارج أماكن محددة في قلب المدينة حتى، كانت النساء تخصص يوماً لصنع الكاتو للعائلة الفلانية ويوماً آخر لعائلة أخرى وهكذا، حتى يصل الكاتو إلى كلّ عائلات الحي قبل انتهاء الشهر.
ليمون للجميع
من جهته، يتذكر أبو فضل أنّه تمكن في بداية الستينات من الحصول على امتياز العمل على سيارة أجرة في مطار بيروت الدولي، القريب من المنطقة. كان يعمل ليلاً ونهاراً ويجني الكثير من المال. لكنّه يشير إلى أنّ ما كان يجنيه في رمضان "كان أكثر بكثير". حتى أنّ الركاب كانوا يمنحونه مالاً أكثر عندما يعرفون بصيامه.
بالنسبة له، لم يكن ملتزماً دينياً يومها، ولا بعدها. لكنّه كان يتوقف عن شرب الخمر في رمضان بالذات: "من أجل نيل بركات الشهر الكريم".
يتذكر أنّه كان يجلب كلّ ما تحتاجه عائلته، على عكس الجيران الذين ينتظرون البائعين، من "سوق النورية"، و"سوق الدجاج"، و"سوق الخضرة"، في وسط بيروت، أو ما كان يعرف يومها بالبرج. يقول إنّ تلك الأسواق كانت للفقراء والأغنياء على حد سواء.
ويتذكر عادة درج عليها جميع من في الحي الذي يسكن فيه في برج البراجنة وهي "إطعام غريب". والمسألة أنّ بعض الباعة الجوالين الذين يتأخرون عن منازلهم ولا يلحقون الإفطار مع أولادهم، كانوا يستضافون في بيوت الحيّ الذي يمرّون فيه، أكانوا من أحياء أخرى أم حتى غريبين بالكامل عن المنطقة.
أبو خالد (مواليد 1943) استمر حتى سنوات قريبة يبيع الجلاب في شوارع الشياح في الضاحية الجنوبية. لكنّه في شهر رمضان بالذات كان يبيع عصير الليمون بالقرب من ثكنة المضاد، وهي ثكنة قريبة من الضاحية وعلى مفصل طريق بيروت - الجنوب. هناك عمل قبل الحرب لعدة سنوات، وعاود نشاطه بعد الحرب ابتداء من عام 1991 حتى 1997.
يقول إنّه كان يجلب في رمضان كلّ يوم شاحنة ليمون صغيرة. يغسلها بالمياه المضغوطة مع الهواء في محطة محروقات قريبة، ويبدأ عمله الذي لا ينتهي إلاّ بانتهاء الليمون "المضيء" فوق عربته، كما يقول. ويتابع: "كنت في رمضان وحده أجني من الليمون ما قيمته 3 أشهر كاملة من عملي في الجلاب. وليس الليمون هو السبب بل رمضان شهر الخيرات كلّها".