بيروت احترقت. أطنان من المواد المتفجرة التي كانت قابعة في مرفأ بيروت منذ ست سنوات دمرت المرفأ وكل ما يحيط به من مناطق. وفيما تتجه أصابع الاتهام إلى مسؤولي المرفأ الذين تم تجميد حساباتهم ومنعهم من السفر، يغيب عن لائحة المتورطين وزراء وأحزاب ومسؤولون كانوا يعلمون بوجود مواد شديدة الخطورة مخزنة من دون أي حماية أو تحصين من وقوع الكارثة طوال السنوات الماضية حتى يوم الانفجار الكبير.
وتبحث السلطات عن الاستفادة من مرفأي صيدا وطرابلس لاستكمال العمليات التجارية وتخزين الحبوب وضمناً القمح، إلا أن مصادر مطلعة تؤكد، لـ"العربي الجديد"، أن الإهمال الذي طاول المرافئ طوال السنوات الماضية وعدم تأهيلها لتكون بديلاً طارئاً عن مرفأ بيروت، يصعّب كثيراً فكرة استبدال الأخير بأي مرفأ آخر، سواء كان من حيث السعة أو القدرة على رسو البواخر الكبيرة، فيما لا تتوافر صوامع الحبوب إلا في مرفأ بيروت المدمّر.
واقع يطرح صورة مأساوية تطاول توافر السلع الأساسية في الأسواق خلال الفترة المقبلة، في بلد يستورد غالبية ما يحتاجه من الخارج. المتضررون بلا سند وحول المرفأ، تتساقط الأبنية المتصدعة من عصف الانفجار في منطقة الجميزة المواجهة لموقع الانفجار، الواحدة تلو الأخرى، فيما تستكمل السلطات إهمالها بالغياب عن المواقع المتضررة.
الآلاف أصبحوا بلا مساكن في المناطق التي تضررت في العاصمة. العتمة تسيطر على الأحياء بسبب انقطاع الكهرباء. دولارات اللبنانيين محتجزة في المصارف حتى اليوم، وأسعار السلع، خاصة تلك المرتبطة بالبناء لإعمار ما تهدّم، مرتفعة عما كانت عليه قبل انفجار الأزمة النقدية في العام 2019، ما بين 200 في المائة إلى 300 في المائة، وفق عاملين في القطاع.
السلطة النقدية الممثلة بمصرف لبنان، قررت تقديم القروض للمتضررين، بدلاً من التكفّل على نفقة الدولة بإعادة بناء ما تهدّم. قروض ستمنح على شكل "شيكات"، وفق تأكيد العديد من المصادر المعنية بالملف، فيما لا تزال جهات مصرفية تستبعد هذا الخيار وتعد بصرف الدولارات نقداً.
والشيكات المصرفية في لبنان تعني حسم أكثر من 30 إلى 50 في المائة من قيمة الشيك، كون المصارف لا تقبل صرفها، فيما يتولى وسطاء في السوق السوداء هذه العملية بعد اقتطاع ما بين ربع ونصف قيمة الشيك المصرفي.
رئيس قسم البحوث والتحاليل الاقتصادية في مجموعة بنك "بيبلوس" نسيب غبريل يشرح، لـ"العربي الجديد"، أن تعميم مصرف لبنان حول القروض للمتضررين من الانفجار ستكون بلا فوائد ويمكن سدادها بالدولار أو بالليرة اللبنانية وفق السعر الرسمي (1507 ليرات). هل سيتم دفع القروض بالدولار نقداً؟ يؤكد غبريل أنه لا توجد آلية واضحة للدفع حتى اليوم، خاصة أن عدداً كبيراً من المصارف تضرر كثيراً من الانفجار ولا يزال يحاول استئناف عملياته، فيما المتضررون من أصحاب البيوت والشركات أيضاً غير جاهزين لتقديم الطلبات التي تحتاج إلى وقت لجمعها. ولكنه يلفت إلى أن المصارف ستباشر بعملية استقبال الطلبات بأقرب وقت ممكن.
إلا أن المحلل الاقتصادي والمالي دان قزي، يستبعد الدفع النقدي، ويشرح أن عددا من المراجع الرسمية قدّر قيمة الأضرار بمليارات الدولارات، والبعض قال إنها قد تصل إلى 15 مليار دولار، فيما مصرف لبنان لا يمتلك مثل هذا المبلغ لدفعه للمتضررين.
من هنا، يرجّح قزي أن يتم الدفع عبر "الشيك المصرفي"، الذي لا تعترف المصارف به أصلاً ولا يمكن إيداعه فيها، ما يطرح الكثير من التساؤلات حول كيفية استفادة المتضررين من هذه القروض، كون المقاولين وتجار مواد البناء لن يقبلوا بالشيكات غير القابلة للصرف، وهم أساساً يحتاجون إلى الدولار النقدي لاستيراد بضائعهم من الخارج.
أزمة المساعدات
كما يلفت قزي إلى أن مواد البناء وخاصة الزجاج ستشهد طلباً كبيراً، والأرجح ألا يستطيع التجار تلبيته، ما قد يؤدي إلى نقص في توافر هذه المواد. ويخلص إلى أنه لن يستغرب أن يعاني المتضررون من عدم القدرة على ترميم ما تهدم من بيوتهم. من جهة أخرى، يلفت قزي إلى وجود أزمة في ما يتعلق بمساعدة لبنان.
إذ إن الجهات المانحة لا تثق بالحكومة وستركز على المساعدات العينية أو على تقديم الأموال للجمعيات. فيما تواجه المنظمات وحتى المغتربون مشكلة كبيرة من حيث عدم قدرتهم على تحويل الدولار من الخارج
عبر المصارف، خوفاً من احتجازها كما حصل خلال الفترة الماضية.
ويعتبر قزي أن ما يحصل في لبنان وما أدى إلى حصول الانفجار يتعدى الفساد إلى سوء الإدارة وانعدام المحاسبة للمسؤولين. ويستغرب عدم وجود استقالات حتى اليوم. ويشرح أن المسؤولين في لبنان لا يشعرون بأنهم تحت ضغط من أي نوع كان، وبالتالي لا يهتمون في تقديم خدمات للناس، ولا يقدرون تبعات إبقاء مواد متفجرة في المرفأ طوال السنوات الماضية.
يأتي ذلك في ظل وصول عدد كبير من المساعدات العينية والطبية إلى لبنان، إضافة إلى مساعات نقدية محدودة، وسط دعوات متواصلة من الجهات المانحة للحكومة اللبنانية بالسير في إجراءات الإصلاح للحصول على القروض والمنح المالية.
الفقر يتمدد
والانفجار الذي جاء في سياق مرور لبنان بأسوأ أزمة اقتصادية منذ انتهار الحرب الأهلية، يزيد المؤشرات الاجتماعية انهياراً. ويقول المحلل والباحث الاقتصادي جاد شعبان، لـ"العربي الجديد"، إن الفقر في لبنان يتركز في المدن الكبرى والمناطق المحيطة بها، إن كان في صيدا أو النبطية أو طرابلس وصولاً إلى العاصمة بيروت وضواحيها، حيث تضم نسبة كبيرة من العمالة من مناطق الأطراف.
ويلفت إلى أن نسبة الفقر في بيروت كانت في العام 2005 بحدود ثمانية في المائة، لترتفع إلى 20 في المائة في العام 2016، ومع ارتفاع حدة الأزمات بعد هذا التاريخ وصولاً إلى الانهيار النقدي في العام 2019، استمرت النسبة في التصاعد، ومن المتوقع أن تتخطى الـ40 في المائة بعد الانفجار، الذي شرد مئات آلاف المواطنين، ودمر عدداً كبيراً من المؤسسات، وأدخل الآلاف إلى جيش العاطلين من العمل.
يشير شعبان إلى أن الاقتصادات الراكدة عادة ما تتحرك بعد الأزمات والكوارث بسبب تدفق المساعدات أساساً، إلا أن ما يحصل اليوم لا يشبه ما سبق. خلال حرب تموز/ يوليو من العام 2006، تدفقت مليارات الدولارات إلى لبنان، ونشطت الكثير من القطاعات، لكن البنك الدولي حينها توقع تسجيل 200 ألف عاطل من العمل بسبب العدوان الذي أدى إلى تدمير المؤسسات والبيوت. اليوم الأمور مختلفة، مع ضعف المساعدات ووجود أزمة اقتصادية ضخمة سبقت وقوع الانفجار.