"عالضَيعة يمّا عالضَيعة، ودّيني وبَلا هالبَيعة.. جينا نبيع كبوش التوت، ضيّعنا القلب ببيروت".
عندما كنّا ندندن صغاراً كلمات أغنية صباح هذه، لم تكن الضيعة التي تنشدها فيروز قد سحرتني بعد. في ذلك الزمن، كنّا نضحك كلّما ذكرنا "كبوش التوت". كانت "الشاميّة"، شجرة التوت خاصتنا، تمثُل أمامي.
شجرة هرمة، إنّما خضراء فيّاضة. لم تنضب في أيّ من مواسمها. أصابع صغيرة مصبوغة بـ"أحمر توتيّ" عنيد. نغسلها، عبثاً. أوراق خضراء عريضة. نقطفها ونرصفها في علب أحذية قديمة خصّصناها لتربية دود القزّ، قبل أن نحقّق تحت إشراف الجدّة مبتغانا: صناعة الحرير. مبتغى بقي في تلك الخانة. آنية صغيرة مخصّصة لتلك "الكبوش" التي يتدرّج لونها من أحمر فاتح إلى أسود. لكلّ لون مذاقه، بحسب درجة النضج. نختار منها ما نحبّه، قبل أن نُضبَط بالجرم المشهود. ونضطر إلى تناول حتى تلك التي لم نستلذّها يوماً.
وأتى ذلك اليوم. لم أعد أرغب في تناول "كبوش التوت". رفيقاتي في المدرسة، مدرستي البيروتيّة، لم يكُنّ يعرفنَ هذا النوع من التوت. لم يكُنْ الأحمر يلطّخ أصابعهنّ ولا ثيابهنّ، فلا يُضطررنَ إلى تحمّل التوبيخ. لم يكُنّ يربّينَ دود القزّ. في ذلك الحين، لم يكُنّ يُدركنَ أنّ الحرير مصدره شرانق دود القزّ.
بيروت. هناك، كانت مدرستي. في الضَيعة، كان بيتنا. اسم الضَيعة غير مهمّ. يكفي أنّها ليست بيروت. بيروت، قبلة أبناء الأطراف، في الأمس وما قبله وما بعده.
في الأمس، لطالما رأى رفاق الضَيعة الصغار في نزولي اليوميّ إلى بيروت، أمراً جللاً. أمّا رفيقات المدرسة، فكُنّ يستغربنَ طريقة لفظي كلمة مَوز. ويبتسم بعضهنّ بسخرية وخبث. أنا لست منهنّ. لست من بيروت.
ما قبل الأمس، كان أهل الضَيعة وأهل غيرها من الضيع، يقصدون بيروت كلّما رغبوا في "سلعة قيّمة" باختلاف أنواعها. ويتفاخرون: "هذه من بيروت!". كانت "النزلة" إلى بيروت، رحلة يتحضّرون لها أياماً، في بعض الأحيان. لمزيد من الدقّة، كان ذلك، ما قبل قبل الأمس.
ما بعد الأمس، تخطّيتُ سخرية البعض، وبقيتُ ألفظ كلمة مَوز بالطريقة نفسها. ما بعد الأمس، تحوّلَتْ بيروت إلى ما يشبه محوراً لي. أسميتها مدينتي. ذبت في مداها، بينما تلبّست هي بي، في كثير من تفاصيلها. بحرها. شوارعها. ليلها. صخبها. ضوضاؤها. مسارحها. فسحاتها. أرصفتها. تلوّثها. ناسها...
وأتى هذا اليوم. أستلذّ "كبوش التوت" وأعيد حساباتي. أضعت القلب - بعضاً منه - فيها. أسميتها مدينتي. كان ذلك مجرّد ظنّ. "عالضَيعة يمّا عالضَيعة، ودّيني وبَلا هالبَيعة...".