"كيف انتهى بي الأمر هنا؟"، يسأل، والفيلم كلّه محاولة للإجابة عن أسئلة من نوع: "ماذا يحصل بعد أن تنطفئ أضواء المجد والشهرة؟".
فيلم "بيردمان Birdman"، أو "الفضيلة غير المتوقّعة للتجاهل"، كما هو العنوان الفرعيّ له، هو "كوميديا سوداء"، بحسب الإعلان الترويجي. يحكي قصّة ممثّل (مايكل كيتون) اشتهر في دور بطل خارق هو "بيردمان Birdman"، ويصارع ليقدّم مسرحية على "برودواي". تدور أحداث الفيلم في كواليس المسرح خلال التحضير للمسرحية.
يكتشف البطل – الممثّل، الخارق – الضعيف، والمشهور – المنسيّ، أنّه خسر عائلته، فطلّق زوجته لأنّه خانها بتأثير من شهرته، ونسي ابنته، فكرهته وتعاطت المخدّرات، وخسر نفسه حتّى. كما لو أنّه باع نفسه لشيطان الشهرة. والآن يريد تعويض كلّ شيء، فيغامر بأمواله وعائلته وأمانه واسمه، طمعاً في الخلود.
يحاول تقديم مسرحية على مسرح برودواي، يكتبها ويخرجها ويكون بطلها، ليقول للناس وللتاريخ إنّه ليس مجرّد "بيردمان"، أي "الرجل الطير الخارق"، الذي يحبّه المراهقون والأطفال، بل هو فنّان كبير يريد أن يخلّد اسمه.
ربّما يكون الحوار الذي أجراه مع زوجته السابقة هو الأكثر تعبيراً عن أزمته، وعن أزمة هوليوود وأبطالها "الخارقين". إذ يقول لها حين ترفض رهن المنزل لتمويل المسرحية: "كنت في الطائرة مرّة، وكان جورج كلوني يجلس أمامي. مررنا في مطبّات هوائية قوية. بدأ الركّاب يبكون. كلّ ما فكّرت به أنّه إذا وقعت الطائرة، فإنّ ابنتي لن ترى غداً وجهي على الصفحة الأولى في الجريدة، بل سيكون وجه جورج كلوني".
هكذا يختصر أزمته في رغبته بأن يكون خالداً وليس فقط بطلا خارقاً. هو الذي يرينا المخرج أنّه بات يمتلك قدرات "بيردمان" الخارقة، في حياته اليومية، فيطير أحياناً، ويرفع الأدوات من دون أن يمسكها، ويشعل النار من بعيد، ويحطّم الأثاث بإشارات من يديه.
كما لو أنّ الفيلم يقول لنا إنّ "القدرات الخارقة" يملكها البطل الهوليوودي حتّى خارج الأفلام. في ذروة السخرية من هذه القدرات، في الأفلام وخارجها. لكنّ التركيز عليها يريد القول إنّها "حقيقية". فهو خارق، بغضّ النظر إذا كان تافهاً أو ذكياً، ممثلاً حقيقياً أو مجرّد بطل يختفي خلف قناع "الطير البشريّ الخارق Birdman".
بهذه الكوميديا السوداء تسخر هوليوود من نفسها، وتنظّف نفسها إذ تُقدِم هي نفسها، وليس أيّ أحد آخر، على السخرية من نفسها. لكنّها بهذا تنظّف نفسها من الداخل. تغسل عار خوارقها السطحية وأفلامها التجارية العابرة، بأن تقدّم فيلماً من وزن "بيردمان Birdman" ينتقد "روح" هوليوود، فيعطيها روحاً إضافية من خلال هذا النقد.
في مكان آخر يقول البطل: "هل تعرفين أنّ فرح فاوست ماتت في يوم موت مايكل جاكسون نفسه؟". هكذا يختصر رحلة الجري وراء أوهام الخلود، وحقيقة الزوال الحتمية، بالنسبة إلى الجميع، باستثناء قليلين.
فرح فاوست لمن لا يعرف هي أهمّ بطلات "ملائكة تشارلي" في العام 1976. وقد صنّفت على أنّها الرقم 26 في أهمّ النجوم التلفزيونيين الخالدين. لكنّها انطفأت في التسعينيّات، حين كبرت وهجرتها الأضواء. أصيبت بالسرطان في العام 2006، فقرّرت المواجهة، وصوّرت معركتها ضمن فيلم وثائقيّ أرادت أن تعود من خلاله إلى الأضواء. وكان يفترض أن يكون موتها هو لحظة ذروتها الجديدة، في فيلم واقعيّ يجسّد حكاية موت أبرز نجوم الولايات المتحدة الأميركية والعالم خلال عقود. لكنّ موتها في اليوم نفسه مع مايكل جاسكون أعاد طمر حكايتها، لما حظيَ به موت جاكسون.
أحد أبطال الفيلم هو "الصوت"، صوت "بيردمان"، الذي يلاحقه دوماً ليقنعه بالعودة إلى الأفلام الخيالية لأنّ المجد هناك: "الناس يريدون التشويق والإثارة وقطع الرؤوس والرجال الخارقين، وليس مسرحية عن رجال ضعفاء يحتارون في شرح ماهية الحبّ"، يقول له.
بطل آخر هو المخرج المكسيكي أليخاندرو إيناريتّو، الذي يعتمد لقطات طويلة يتجاوز بعضها الدقيقتين، ولا يركّز على التفاصيل "الصورية"، كما هو حال أفلام هوليوود الدقيقة والمبهرة، بل يترك العنان للشخصية كي تقول ما تريد بصوتها وصورتها وتعابير وجهها، بلا تقطيع، أي "Cut"، على وجوه المستمعين مثلا، في المشهد نفسه.
بطل آخر هو مهندس الصوت. فالأصوات المصاحبة للمشاهد حقيقية. صوت المحيط التصويري "Ambiance" ليس مدروساً ليكون "كاملا" و"محترفاً" بل ليكون حقيقياً. في الشارع أصوات الشارع، وليس صوت البطل فقط، وفي الكواليس أصوات الكواليس الفوضوية حتّى الإزعاج.
في أحد المشاهد يركض البطل شبه عارٍ في الشارع، بعدما علق رداؤه في باب أقفل عن طريق الخطأ. هو عري "البطل" بين الناس العاديين. فيقدّم إعلاناً ترويجياً عفويّا على اليوتيوب، لمسرحيته، عبر هواتف العابرين. هو الذي لا يملك حسابات على التويتر والفيسبوك واليوتيوب، ويبدو "بلا وجود" لأنّه غير موجود على وسائل التواصل الاجتماعي.
في المشهد الأخير من المسرحية، يحاول البطل أن ينتحر، ليصنع من موته على المسرح مشهدا خالداً، في العرض الأوّل. يطلق النار على أنفه، فيقطعه، في مشهد "فان غوغيّ". وهكذا ينال رضا الناقدة المسرحية التي كانت تريد "قتل المسرحية" لأنّها تكره "الآتين من هوليوود ليثبتوا أنّهم ليسوا تافهين، ويظنّون أنّ في إمكانهم أن يكتبوا ويخرجوا مسرحيات وأن يكونوا أبطالاً في برودواي". ينال رضاها ويتصدّر الصفحات الأولى في الصحافة الفنية التي تعتبر أنّه "أسال الدماء الحقيقية التي كان يحتاجها المسرح الأميركي".
هو فيلم عن التناقضات بين أضواء الخلود، التي يريدها البطل، في نهاية حياته، بدل أضواء الشهرة العابرة، وأضواء المجد الأبديّ بدل أضواء التصفيق الشعبي، وأضواء المسرح، برودواي، بدل أضواء هوليوود.
فيلم عميقٌ واستثنائيّ في زحمة الأفلام التجارية التي تملأ هذا العالم.