مؤلم هو مشهد رجل مسنّ مشرّد على قارعة طريق أو تحت جسر. قد يعود ذلك إلى أنّ الرجال يوحون بالصلابة، عادة. وفي محاولة لحفظ كرامة بعض من هؤلاء، كان مشروع "بيت جدودنا".
"يا حلّاق اعملّي غرّة وفرّحلي قلبي شي مرّة تَحَرْقِص ابن الجيران يلّي عيونو لبرّا"... وتصدح طروب في أرجاء ذلك البيت الحجريّ وباحته الخارجيّة، بعد ظهر يوم مشمس من آخر أيّام الشتاء. على أنغام الأغنية التي جعلت هؤلاء الرجال يبتسمون وهم يستعيدون شيئاً من زمن ولّى إلى غير رجعة، كان شبّان وشابات يقصّون لهم شعرهم ويحلقون لحاهم ويقلّمون أظافرهم، في حين تحرص يارا على سير كلّ شيء على أفضل حال.
في بلدة بيت مري، واحدة من قرى لبنان إلى شمال شرق بيروت، يقع ذلك البيت الحجريّ بسقفه القرميديّ الأحمر. إنّه "بيت جدودنا". هكذا ارتأت يارا بو عون، ابنة الواحدة والثلاثين، تسميته قبل عام تقريباً، لتستقبل فيه رجالاً تقدّمت بهم السنون وقد قست عليهم الحياة فوجدوا أنفسهم وحيدين ومنسيّين ومشرّدين في عالم لا يرحم. هنا، في هذا البيت، يستقرّ اليوم أحد عشر من هؤلاء الذين لا يتوقّفون عن الدعاء للشابة التي وفّرت لهم سقفاً، بعيداً عن المؤسّسات الرعائيّة التقليديّة ودور العجزة المتعثّرة في لبنان.
"حاوِلوا ترك هذه الأرض وقد جعلتموها أفضل حالاً ممّا وجدتموها". هذا ما قاله مؤسّس الحركة الكشفيّة اللورد بادن باول وما استلهمته منه المرأة الشابة التي تفخر بأنّها نشطت في الحركة لمدّة 20 عاماً، مؤكّدة أنّه "من العظيم أن نترك هذه الدنيا وقد خلّفنا وراءنا أثراً طيّباً". وتخبر يارا كيف انخرطت مبكراً جداً في العمل الاجتماعيّ الخيريّ، "منذ أكثر من 25 عاماً، عندما كنت لا أزال طفلة صغيرة. النشاطات الاجتماعيّة التي كانت تنظّمها المدرسة بدأت توجّهني حينها". وفي هذا السياق، يأتي "بيت جدودنا" كمشروع لجمعيّة "لايف لاين" التي أسّستها يارا قبل أعوام بهدف تقديم مساعدات غذائيّة ودوائيّة إلى شرائح مختلفة، بالإضافة إلى خدمات أخرى من قبيل ترميم بيوت وزيارة مستشفيات وتحقيق أحلام وما إلى ذلك. "وحين وصلنا إلى كبار السنّ المنسيّين، شعرتُ بأنّ الأمر مَسّني في الصميم. فأنا متأثّرة كثيراً بجدّتي وجدّي وأحبّهما بجنون. ولأنّني أدرك مدى فرحتنا وفرحتهما عندما نكون مجموعين معاً، لم أتمكّن من تقبّل فكرة أن يكون عجوز متروكاً أو منبوذاً أو وحيداً من دون عائلة. فكانت مبادرة فردية ثمّ جماعيّة مع المتطوّعين".
لماذا "بيت جدودنا"؟ تجيب يارا: "كلّما التقينا كبيراً في السنّ مشرّداً ومنسيّاً وسألناه عن حاجته، لا يتردّد في القول: بيتاً. فكرة البيت تعني الكثير لمثل هؤلاء الرجال. وبمجرّد أنّنا اقترحنا عليهم المساعدة وثقوا بنا لأنّنا دعيناهم إلى بيت وليس إلى مأوى". البداية كانت مع مسنَّين اثنَين قبل أن تكبر العائلة وتعمل يارا وفريق المتطوّعين على توسيع البيت شيئاً فشيئاً. بالنسبة إليها، فإنّه "لا بدّ من أن يجدوا هنا راحتهم، فيما نؤمّن لهم العناية اللازمة". والراحة تعني أن يتصرّفوا بحريّة، من دون قواعد صارمة، فيما يستفيدون ممّا هو متوفّر في البيت ويتشاركون مع الآخرين ما يرغبون فيه. كذلك، تحاول يارا والفريق "إشغال وقت هؤلاء حتى لا يشعروا بالفراغ، من خلال وسائل مختلفة. هكذا كانت ورشة حدادة صغيرة، فيما وُضعت في متناول من يحبّ الزراعة، كلّ الأدوات اللازمة لذلك، بالإضافة إلى توفير مستلزمات أخرى للترفيه من قبيل مجلات الكلمات المتقاطعة وطاولات الزهر (النرد) وورق الشدّة (الكوتشينة). وبينما يهتمّ بعض من أهل البيت بكلاب صغيرة، فإنّ آخرين يستقبلون الزائرين من مجموعات وأفراد مهتمّين بأمرهم، وفي بعض الأحيان يخرجون في رحلات جماعيّة.
"هنا، يعيشون حياة تليق بهم... حياة طبيعيّة كما هي حياة كلّ واحد منّا". وتشدّد يارا على هذه النقطة، مضيفة "آسفة لأنّني لا أحبّ دور الرعاية الخاصة بالمسنّين. فأنا لا أستطيع القبول بالحياة التي يعيشها هؤلاء في تلك المراكز. هم يستحقون ما هو أفضل. وأتمنّى لو كنت قادرة في هذه اللحظة على سحب جميع نزلائها المنسيّين منها وإنشاء بيت جدودنا في كلّ منطقة من لبنان، في محاولة لتعويض الفراغ الذي عاشوه في حياتهم". وتتابع: "من غير المقبول التخلّي عن مسنّ، مهما قست الظروف ودارت الأيام. نحن لسنا في وارد الحكم على أيّ كان أو لومه، وبابنا مفتوح لمن يرغب من عائلاتهم في زيارتهم"، آملة بأن "يكون ذلك قبل فوات الأوان... فالوقت يداهمنا".
عندما كانت يارا تبحث عن بيت، أرادته أن يكون تقليدياً من الحجر والقرميد مع حديقة "لأنّ كبار السنّ يحبّون هذا الطراز الذي يعيد إليهم ذكريات زمن بعيد"، علماً أنّ "كلّ واحد من أفراد عائلة بيت جدودنا أتى من منطقة وبيئة مختلفتَين وله تفكيره الخاص وعاداته. لكنّهم جميعاً اندمجوا اليوم بعضهم مع بعض". ولا تخفي أنّ "ثمّة أشخاصاً وحيدين منسيّين يتردّدون عندما ندعوهم إلى الانضمام إلى عائلتنا. هم تعوّدوا على حياة التشرّد، لكنّنا نحن مستمرّون في المحاولة ونتفاءل خيراً". وعند سؤالها عن شروط الانضمام إلى عائلة "بيت جدودنا"، تؤكّد يارا أنّ الأمر بسيط إذ "يكفي أن يقبلوا دعوتنا ونوقّع معاً مستنداً عند كاتب العدل يفيد بأنّهم فعلوا ذلك بكامل إرادتهم. ونحن في هذا الوقت نحاول البحث عن أيّ فرد من أفراد عائلاتهم لعلّه يرغب في تواصل ما. كذلك، لا بدّ من أن يكونوا قادرين على تدبّر أمورهم الشخصيّة بأنفسهم، فنحن غير قادرين على استقبال أشخاص عاجزين أو يعانون من أوضاع صحيّة مستعصية. ببساطة، نحن لا نملك الإمكانيات، فذلك يستلزم طاقماً صحياً على مدار الساعة وميزانيّة كبرى". يُذكر أنّ "بيت جدودنا" قائم بفضل فاعلي خير كثيرين، كلّ بطريقته ومجاله، فيما العمل جارٍ على "تحقيق حلم ثانٍ" من خلال بيت آخر في الجوار، هو "بيت ستّي" الذي سوف يستقبل نساء مسنّات ظلمتهنّ الحياة مثلما فعلت بمسنّي "بيت جدودنا" وغيرهم.
في حديقة "بيت جدودنا"، يشرب العمّ خليل الشاي بعدما أنهى حلاقته. يقول: "أنا آخر العنقود، وصلت إلى هنا قبل شهر تقريباً. في الواقع، أظنّ أنّ هذه هي جنّتي الحقيقيّة. طوال حياتي تمنّيت أن أكون في منطقة مماثلة، والله جعلني هنا... وتحقّق حلمي". من دون أن يتطرّق إلى الأسباب التي جعلته في هذه "الجنّة"، يخبر ابن التاسعة والستّين بلغة إنكليزيّة متقنة أنّه سافر في ستّينيات القرن الماضي لاستكمال دراسته الجامعيّة في بريطانيا ثمّ الولايات المتحدة الأميركيّة حيث استقرّ أعواماً طويلة حصل في خلالها على شهادة دكتوراه في علم النفس، قبل أن يحسم أمره ويعود إلى لبنان في عام 2002. "رأيت أنّ من واجبي تقديم ما حصّلت من علم لأبناء وطني"، ويستفيض في الحديث عن الوطن وشؤونه وشجونه، مهملاً شجونه الخاصة.
ليس بعيداً عنه، كان العمّ كميل منهمكاً في صناعة خواتمه، في مشغل صغير أعدّته يارا خصّيصاً له. هو في الخامسة والثمانين من عمره، ويصرّ على تقديم ما تصنعه يداه لكلّ زائر، مردّداً "شي حلو كتير". يقول: "هنا ألهو... أصنع من التنك تحفاً وخواتم وأساور وأواني"، مؤكّداً أنّه كان ليختنق لو لم يأتِ بأيّ نشاط. ويحكي عن محطّات كثيرة في حياته، فيما تختلط الكلمات والأفكار، فيعود إلى التركيز على صفائح التنك.
أمّا العمّ سليم السبعينيّ الذي كان من أوائل الوافدين إلى "بيت جدودنا"، قبل نحو عام، فيتحدّث عن مشاريعه المستقبليّة: "في الشهر المقبل، سوف أزرع الأرض هنا خياراً وخسّاً ولوبية وبقدونس ونعنع. لطالما عملت في الزراعة عندما كنت صغيراً في ضيعتي. ثمّ يسرد ما عاناه مذ تهجّر منها في خلال الحرب اللبنانيّة، قائلاً "حياتي كانت شحشطة (تشرّد) على الطرقات وبؤس مذ ذلك الحين. وفي النهاية، وصلت إلى هنا". يتوقّف قليلاً قبل أن يحكي بصوت مرتعش عن "رحمة للمسنّين".