بيتر فوندا... رحيل أيقونة التمرّد

20 اغسطس 2019
بيتر فوندا: الثقافة المضادة (فيسبوك)
+ الخط -
إنّه عامٌ مليء بتحوّلات، لا تزال تأثيراتها ماثلة في وجدان وتفكير وتأمّلات. 1969 يبقى الأكثر حضورًا في راهنٍ يتخبّط في ارتباكات وقلاقل ومخاطر. الاحتفالات به تتوالى، فهو نتاج تراكمات عديدة، بعضها متمثّل بإخفاقات شتّى، أو بتساؤلات غير نهائية، وبعضها الآخر بانتصارات، وإنْ تكن قليلة إلا أنّ مردودها فاعلٌ لكونه مفصلاً بين مرحلتين: "وودستوك"؛ نزول الإنسان على سطح القمر للمرّة الأولى في تاريخ البشرية؛ حرب فيتنام، والتظاهرات المُناهضة لها في شوارع الولايات المتحدّة الأميركية، وما يعنيه هذا من صدام عنيف بين الناس وأجهزة السلطة؛ ثقافة الـ"هيبي"؛ مقتل الممثلة شارون تايت، زوجة السينمائي رومان بولانسكي، على أيدي تابعين لتشارلز مانسن؛ اغتيال جون وروبرت كينيدي ومارتن لوثر كينغ... إلخ. 

كلامٌ كهذا منبثقٌ من ذكرى مرور نصف قرن على "أحداث 1969". إذْ بعد استعادة بعض معالم ذاك العام، والمُتراكم فيه جرّاء أفعال مختلفة على مدى أعوام قبله، يُبثّ نبأ رحيل بيتر فوندا بعد أقلّ من يومٍ واحد على وفاته (الجمعة، 16 أغسطس/ آب 2019). الممثل والسيناريست والمخرج الأميركي (1940) أحد صانعي Easy Rider ذاك العام، بمُشاركته في كتابته وإنتاجه، وبتأدية أحد أدواره الأساسية إلى جانب دونيز هوبر (1936 ـ 2010)، مخرجًا وكاتبًا أيضًا. التعليقات الرثائية على وفاته مرتكزة على هذا الفيلم وحده، فهو الأشهر والأهم بالنسبة إليه، كما بالنسبة إلى اللحظة التاريخية والسينما، وإلى علاقة السينما ببيئتها واجتماعها، لأنّه مرآة تلك البيئة وذاك الاجتماع، في لحظة تغييراتٍ جذرية.

فيلمٌ كهذا يُصبح أيقونة تمرّد ورفض ومواجهة، في إطار ما يُعرف حينها بـ"الثقافة المُضادة" للسائد، ويُحوّل بيتر فوندا تحديدًا إلى أيقونة مماثلة، لعلّها سببُ غياب مشاريع وأفلام وأدوار وشخصيات لاحقة في سيرته المهنيّة، يُفترض بها أنْ تُبلور الحضور الأيقونيّ للممثل، أو أنْ تُحصّن الأيقونة من الاندثار. أيّ أنّ اللاحق على Easy Rider في السيرة المهنيّة لبيتر فوندا، غير قادر على منحه تفوّقًا أو تجديدًا أو اختلافًا، أو تأكيدًا للمُكتسَب، فإذا بالأيقونة تبقى كما هي بفضل الفيلم. والاحتفاء بفيلم دنيز هوبير هذا، في لحظة وداع بيتر فوندا، نابعٌ من بلوغ الأخير مجده بفضل الفيلم نفسه.

يمزج Easy Rider أنماطًا سينمائية في رحلة صديقين، يقومان بها على درّاجتي "هارلي دافيدسون" (نموذجٌ منهما بيع في مزاد علني، عام 2014 بقيمة مليون و35 ألف دولار أميركي)، ويجوبان مدنًا عديدة، ويكتشفان "أميركا محافِظة"، إلى درجة "تمنّعها" عن قبول تغيير جذري، تشير إليه ستينيات القرن الـ20 بوضوحٍ، غالبًا. أحد مميزاته الثقافية السينمائية، إنْ يصحّ القول، كامنةٌ في أنّه بداية التأسيس لـ"هوليوود الجديدة"، المنبثقة من حراكٍ سينمائيّ يواجه سطوة الاستديوهات الهوليوودية، بتمكّن المخرجين من استلام زمام الأمور فيها، وبتحرّرهم من موانع تحول دون مقارباتهم مواضيع محرّمة، كفساد السياسيين والمسائل الجنسية والعنف والمجازر المرتكبة ضد الهنود الحمر، وغيرها. كما أنّها تتيح للسينمائيين اشتغالات بصرية تكسر كلاسيكية الأنواع وآليات الاشتغال، مانحةً الشكل تحرّرًا من تقليديته وثباته في أطر يُمنع الخروج منها.

وإذْ تُصنع "هوليوود الجديدة" باشتغالات من يتبوّأ المشهد الأمامي لها، وهم مارتن سكورسيزي ومايكل تشيمينو وستيفن سبلبيرغ وفرنسيس فورد كوبولا وبراين دي بالما وجورج لوكاس، إلا أنّ فضل الخطوة الأولى في تأسيسها عائدٌ إلى الثنائي دنيز هوبير وبيتر فوندا، واشتغالهما معًا في Easy Rider.

أما بيتر فوندا، فله سيرة مهنيّة موزّعة على الكتابة والإنتاج والإخراج، مع غلبة معروفة للتمثيل، سينمائيًا وتلفزيونيًا. سيرة يُفترض بها أنْ تخضع لنقاشٍ وتفكيك، يُعيدان له شيئًا من جمالية حضوره أمام الكاميرا، إذْ تظهر براعته في تلك المساحة المُضيئة، لا في الأمكنة الأخرى التي تصنع فيلمًا، رغم أهميتها.
المساهمون