بيار كونيسا في كيفية صنع العدو

02 يوليو 2015
ركني هايري زاده (ألوان مائية على ورق، 30×40 سم)
+ الخط -

في سياق مشروع سلسلة "ترجمان"، أصدر "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب الباحث الفرنسي بيار كونيسا، والذي جاء بعنوان "صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح".

لطالما كانت الحرب أسوأ الحلول التي خضع لها الناس عبر التاريخ. يرى كونيسا أنه من الأهمية بمكان، محاولة فهم كيفية إنتاج العجرفة الحربية التي تدفع الناس إلى أن يقتل بعضهم بعضاً بطريقة شرعية، وبأقل كلفة ممكنة من تأنيب الضمير.

وعلى الرغم من كثافة التفاصيل التي ذهبت بالباحث الفرنسي إلى أبعد مما يقصده عنوان الكتاب، حول أشكال الحروب والنزاعات في العقود الأخيرة، فإن مقولة بحثه مشتقة من فرضية مفادها، أن العدو لم يعد معطى كما كان عليه الحال في الحروب التقليدية، إنما العدو بات خياراً سياسياً، يجري صنعه عبر عملية بناء.

فحين توصلنا العلاقة الإستراتيجية إلى الحرب، فإنها تؤلف مساراً جدلياً يتضمّن فعل الطرف الأول وصورته، وتؤثر في فعل الطرف الثاني وصورته كذلك. فالعدو الذي كانت تسعى الحرب التقليدية إلى التخلّص منه لأنه كذلك، غير العدو الذي جرى اختياره، وبالتالي صناعته من أجل الإبقاء عليه، فمن يحيَ على محاربة عدوه فمن مصلحته أن يدعه يعيش، هذا ما أودعته أدبيات السوفييت العسكرية عند صناع الحروب برأي كونيسا.

هكذا يصل المؤلف إلى الأسئلة الدقيقة من مشروعه؛ "كيف بالإمكان القتل بمعزل عن سؤال الضمير"؟ أو "كيف يمكن ممارسة فعل القتل المدجج بالضمير"؟ إن الإجابة تكمن في "عدالة الحرب"، أو كيف يجب أن تبدو الحرب عادلة. وهذا ما دفع العسكريين في المجتمعات الغربية إلى استخدام مراكز التفكير لإيجاد طريقة لصياغة حكاية الحرب من أجل البرهان بأن الحرب عادلة. ففي "الحرب العادلة"، برأي كونيسا، يحدّد العدو نفسه عبر عدوانيته.

لم تعد الحرب مجرّد شأن حاكم ما يتطلع إلى المجد، بل أصبحت شأن الجميع؛ لذا فإن تهيئة العقول لاختيار العدو تنتج أيضاً عن آلية سوسيولوجية تؤسس للموافقة الجماعية.

لكن الضمير ليس مسألة جماعية، إنما هو سؤال الفرد، فكيف يمكن للعسكري كفرد أن يقتل بضميرٍ مرتاح؟ إنها التقنية، فالمسافة التي تقيمها الطائرة الحربية على المستوى المادي بين القاتل وضحاياه، تجعله بعيداً عن رؤية ما يصيب ضحاياه أثناء موتهم.

كما يلاحظ كونيسا ما يُعرف بـ "الوساطة لفعل القتل"، فالجندي ليس من أصدر الأمر بفعل القتل، كما أنه لم يعد يرى ضحاياه، لذا استطاع القتل مرتاح الضمير. ويعتبر كونيسا، أن القتل يبدو أكثر تنظيماً (وراحة من تأنيب الضمير) بالبزة العسكرية، فالبزة العسكرية تجعل القتل مبرّراً لدى الرأي العام، كما أنها من جهة أخرى تجعل الجندي متلقياً لأوامر القتل، ليصبح جزائياً غير مسؤول.

يتم اختيار العدو وصنعه، برأي كونيسا، في سياق الحروب الوطنية، فالحرب الوطنية قبل أي شيء هي ترخيص ممنوح شرعياً لقتل أناس لا نعرفهم؛ لذا تبقى فكرة صنع العدو هي فكرة الدولة في حروبها الوطنية، والذي تشترط تسميته عدم معرفتهِ، ليكون بالإمكان تخيله كآخر يحمل تهديداً محتملاً. وهذا على خِلاف الحرب الأهلية التي هي حرب الخصم على الخصم، والجار على الجار. فالحرب الأهلية، يقول كونيسا مقتبساً، هي الحرب الصالحة التي نعرف فيها لماذا نقتل ومن نقتل، من دون أن نمجّدها، بينما تُمجّد الحرب، حين تُصبح ضد عدو بعيد ومتخيل.

 وينتبه كونيسا، إلى كيفية خلق العدو وتحديده ضمن آليات الميديا ومختلف وسائطها، فالإعلام والسينما والمنظمات الحقوقية كذلك، كلها بالنسبة إليه حقول تساهم بشكل أو بآخر في صنع العدو. ففي الحقل الإعلامي، ثمة وسطاء جدد يسهمون في ترتيب أولويات الأزمة وتحديد ملامح العدو، في هذا السياق يرى أن المراسل الصحافي يؤدي دوراً بحجم كتيبة عسكرية على الأرض، والصورة لا تقنع المدنيين بعدالة الحرب فقط، بل أضحت من يزوّد العسكريين بمشروعية حربهم أيضاً.

كما يرى كونيسا أن السينما هي من درّب الأميركيين على حفظ ملامح عدوهم، فالولايات المتحدة التي لم تعرف أهوال الحرب على أراضيها، ولم تشهد مدنها تسوّى بالأرض كما حدث في ألمانيا أو روسيا أو فرنسا، كما لم يعرف شعبها بطاقات الحصص التموينية، ولا طوابير الانتظار أمام صنابير الماء، لكل هذه الأسباب يرى كونيسا أن سكانها يعرفون الحرب عبر علاقة سينمائية.

إن المنظمات الإنسانية، والهيئات الدولية التي تبدو أطرافاً حيادية في الحرب، تعمل بدورها على تثبيت فرضية العدو، خصوصاً وأن هذه المنظمات والهيئات قد أضحت من صناع الرأي العام، ويمكنها بحسب كونيسا من خلال دورها في الدفاع عن الضحايا، أن تسهم بتحديد العدو في بعض الأزمات التي ليس لها أي رهان استراتيجي. ما يجعلها في موقع صانع سياسة "القنبلة والخبز"، وهي سياسة نموذجية في صناعة الأعداء على المستوى الدولي، فوحدها الحرب من يعطي معنى للحياة الدولية.

المساهمون