صور كثيرة، وأفلام وثائقية عديدة، وتقارير مختلفة، تناولت سورية في الفترة الأخيرة. لكنّ الكثير من الألمان، لم يتوقفوا عند حدّ الحرب الأخيرة، ومنهم عالم البيئة غيرهارد كولدمان.
فالكاتب والناشط يحتفظ في جعبته بالكثير من صور الحياة السورية، التي تسبق الصراع، وتعود إلى الفترة ما بين عامي 1995 و2005.
هناك التقط صوره، التي لم تتوقف عند مدينة أو اثنتين. بل امتدت من دمشق إلى حلب فاللاذقية وطرطوس، وسواها. صور تسلط الضوء على جمالية البلاد وتاريخها وأصالتها. يقول إنّ "كلّ يوم تمشي فيه في دمشق، يكشف أمامك عوالم جديدة. فالحياة هناك لا تنتهي، ودمشق ليست كأيّ مدينة في العالم".
صور كولدمان، تراعي توثيق كلّ المعالم البارزة للمدينة. فمن تمثال صلاح الدين الأيوبي عند مدخل سوق الحميدية، إلى المسجد الأموي، فمقام السيدة زينب إلى كنيسة باب شرقي. يحكي كولدمان في صوره عن تلك الوحدة التي يعيشها أبناء الطوائف في سورية، وحرية ممارسة العبادات الخاصة بهم جنباً إلى جنب.
يعبّر عن تفاجئه من الهندسة المعمارية الفريدة للمسجد الأموي. ولا يتوقف عند تفاصيل البناء فحسب، بل ينتقل إلى الطقوس المختلفة داخله، والشعائر المتعددة التي يمارسها الناس وبينها الصلاة. يقول إنّ المسجد في سورية، يختلف عن الكنيسة في ألمانيا، فللمسجد وظائف أخرى سوى العبادة، ومنها الراحة والتأمل، وحتى تبادل الأحاديث المرحة أحيانا.
للبحر كما الجبل والصحراء نصيب من لقطاته. ولنهر بردى الدمشقي، ومحطة الحجاز. عاش كولدمان فترة في مدينة قدسيا، وسار منها يوماً بعد يوم، إلى دمشق ذهاباً وإياباً. وتتبع النهر من الزبداني إلى دمشق. في هذه النقطة بالذات، ينطلق كولدمان من صورة له مع ابنته، على النهر، ليتحدث عن أزمة المياه في سورية.
أعجبته التفاصيل اليومية للمدن السورية، وأغرته مشاهد الجزارين، وباعة الخبز والحلويات. لا ينسى طعم الخبز الدمشقي، ولا رائحته. كما لا ينسى الحلاوة الشامية، والكعك، والقهوة الساحرة بنكهتها الممتدة في أرجاء الأسواق. في ذكرياته تنبض دمشق، وفي لقطاته تكاد المدينة تتكلم إليك، وتعبّر شوارع الحميدية، ومحلات بكداش الشهيرة للبوظة، خير تعبير عن ذلك.
في حماة يستذكر كولدمان مجازر الثمانينيات، لكنّه يخصص جلّ اهتمامه للنواعير. أما على شاطئ اللاذقية، فحكاية أخرى. هناك حيث الجرف الصخري شاهد على مدينة عمرها آلاف السنين. لا يخفي أنّه حاول مع زوجته وابنته زحزحة صخرة، فلم يتمكنوا أبداً. جعلوا من الحادثة مغامرة لهم، وذكرى جميلة من الشاطئ المتوسطي.
لا يهتم كولدمان بالمناظر الطبيعية والآثار العمرانية فقط، بل الناس أيضاً. ويروي في ذلك، عن تلاميذ المدارس، بزيهم القديم الأخضر، وزيهم الحديث الأزرق، وقمصانهم البيضاء. يعجبه هذا الالتزام بالزي من الجميع، "فلا مكان للمنافسة أو الغيرة بين التلاميذ كما هو الحال في ألمانيا".
في حلب كان كولدمان يفضل المناطق المرتفعة دوماً، من أجل مشاهدة المدينة بأكملها. وبعيداً عن مشاهد الدمار اليوم، يتحدث العالم البيئي عن حلب أخرى. ويشيد بجهود رئيس الطائفة الإسماعيلية آغا خان ومؤسسته الذي عمل الكثير من أجل ترميم قلعة المدينة. تلك الطائفة التي عرفها كولدمان جيداً خلال إقامته في مدينة السلمية، المعقل الأساس لها. كما عرف الكثير من الأقليات.
لا ينسى كولدمان الثقافة في سورية، ويتحدث بشكل خاص عن مدرج بصرى. ويستعيد لقطة فوق جدار مسرح بصرى لصور ضخمة للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ونجله الراحل باسل الأسد، ولا يبدي الكثير من الاهتمام بالوضع السياسي.
وكذلك يتحدث عن مدرج مدينة درعا، الذي يكشف عمق التاريخ. ولا ينسى حكاية الثورة المنطلقة من درعا عام 2011.
عندما عاش كولدمان في سورية، أطلق يوماً حملة لجمع أكياس النفايات، يقول إنّها لاقت ترحاباً شديداً من الشباب. أمّا اليوم فلا يقوى على رؤية ما آلت إليه الأمور في البلاد. ومع ذلك لا يتوقف عن العمل، فهو يقود حملة لجمع التبرعات من أجل سورية. يتنقل بصوره بين المدن الألمانية المختلفة، ليروي عن ذلك التاريخ الجميل المختلف عن مشاهد الحرب اليومية.
لم يكن يوما يتوقع هذا، فقد شعر دوماً أنّ الناس هناك يسيرون باتجاه الأفضل، وما زال يتمنى زيارة سورية في أقرب وقت.