بول كلي.. الذي رسم الضوء في تونس

30 يونيو 2014
لوحة "سان جرمان قرب تونس" 1914
+ الخط -
بمناسبة مرور مئة عام على زيارة بول كلي ورفيقيه أوغست ماكي ولويس ماييه لتونس، تُنظَّم احتفاليّة في عدد من المدن التونسية تسهم فيها كل من سويسرا وألمانيا وفرنسا، وتحتوي على جملة من الفعاليّات الثقافية: معارض فنّية ومحاضرات وأشرطة سينمائية، تُحتفي مجتمعةً بهؤلاء الفنّانين الثلاثة الذين تمكّنوا بمهارة فائقة من استلهام الموروث الفنّي العربي في تونس ومدّ الفن الغربي الحديث بطاقات روحية وفنّية جديدة.

توجّه الفنان الألماني بول كلي (1879 ـ 1940) إلى تونس عام 1914 بعد تأثّره بأعمال الفرنسي هنري ماتيس والروسي كاندينسكي اللذين كشفا له عن سحر "الجنوب" وما يختزنه من طاقات إيحائيّة كبيرة. لكنّ الناقد والكاتب غرومان يعزو السبب الأوّل لهذه الزيارة إلى "رغبة قديمة (لدى الفنان) في زيارة مدن آسيا الصغرى وشمال إفريقيا، والاطلاع على الحضارة الإسلامية". أمّا مؤرّخ الفن عفيف البهنسي فذهب إلى أنّ سبب الزيارة العميق يعود إلى مطالعة "كلي" لكتب الشاعر غوته، وخاصة كتابه "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" الذي يحفل بصور الصوفية الإسلامية والمفهوم التوحيدي لله.

كتب "كلي" في مذكراته يصف رحلته إلى تونس: "لقد وصلنا إلى شاطئ قريب من العرب الأوائل، وهناك قابلتنا الشمس الساطعة التي تغشي الأبصار، وكان الجو الصافي الألوان يثير في النفس أجمل الوعود". لم تمض لحظات حتّى ظهرت مدينة سيدي بوسعيد من وراء البحر، فوصفها على النحو الآتي: "كتلة حجريّة تنتصب فوقها أشكال بيضاء هي بيوت أهلها".

كان الدخول إلى مدينة تونس دخولاً إلى مهرجان من الألوان والأصوات. فقد استسلم الرجل إلى الأزقّة الضيّقة والأسواق المزدحمة والأضواء الساطعة، ملتهماً بعينيه زخارف المدينة وأشكال قبابها وألوان أسوارها. ثمّة ضوء آخر في هذه المدينة غير الضوء البارد الذي تركه في المدن الأوروبية، ضوء ينفذ عميقاً في كل الأشياء ويبرزها في صور مختلفة.

بعد خروجه من متاهة تونس القديمة، كتب: "رأسي مزدحم بالانطباعات السديمية عن هذه المدينة، حيث الإبداع والطبيعة وأنا. انغمستُ في العمل مباشرةً. أصوّر بالألوان المائية في الحي العربي، لشدة ما يدهشني هذا الانسجام بين عمارة المدينة وعمارة اللوحة".

بعد مدينة تونس انتقل "كلي" إلى مدينة الحمامات الساحليّة التي تحدّث عنها في يوميّاته بانبهار كبير، فوصف الجمل إلى جانب البئر، وأشجار الصبّار التي تملأ المكان، والمقبرة البحريّة المفتوحة على رحابة البحر، ورأى في كلّ هذا "لوحة توراتيّة" من العسير رسم خطوطها وألوانها. لكنّ إيقاعاً ظلّ يسكنه ولم يستطع نسيانه هو إيقاع طبل كان ينقره رجل ضرير ويرفع صوته بلحن شجيّ.

مثّلت زيارة "كلي" لمدينة القيروان لحظة انخطاف وذهول، إذ كتب في مذكراته: "أسرني اللون. لا أحتاج الى البحث عنه. لقد تملّكني إلى الأبد، أعرف ذلك المعنى السعيد لهذه اللحظة: أنا واللون بتنا شيئاً واحداً. أنا رسام".

"مشهد من القيروان"


في القيروان اكتشف الشمس العربية التي "تتغلغل في جسد الإنسان وروحه بحيث لا يمكن تفاديها... فهي بريق ساطع ووهج مشعّ". شمسٌ تركت أثراً واضحاً في لوحاته، إذ تحوّلت إلى حوار بين الضوء والظلّ، بين الواضح والغامض، بين الحلم والحقيقة. والأهمّ من كلّ ذلك، تحوّلت اللوحة إلى لونٍ محض وأشكال مجرّدة. هكذا تمكّن الفنان من توظيف شفافيّة الشعر وتجريد الموسيقى في لوحاته الجديدة التي حملت أسماء عربية.

في نظر الكثيرين، شكّلت هذه الرحلة "ولادته الفنية التي أسست بدورها للفن الحديث". كما يتّفق كثير من الباحثين على أنّ الرحلة التونسية هي التي دفعت "كلي" إلى الرسم المائي التجريدي. إذ تعلّم كيف يرسم مشاهد الطبيعة بشكل تجريدي خارج الانطباعية الاستشراقية التي كانت سائدة قبله".

افتتن الفنان أيضاً بالخط العربي وجماله، وعمل على توظيف طاقاته الأسطورية والجمالية. وربّما ذهبنا إلى القول إنّ "كلي" كان من أوائل الفنانين الذين حوّلوا الحرف العربي إلى عنصر تجريدي، إلى إيقاع، إلى حركة. وإن استخدمنا عبارات الباحثة إيناس حسني لقلنا إنّ الفنان اكتشف في تونس جمالية الحرف العربي. وهذا الحرف قادر، في نظره، على خطف العين والقلب دون حاجة إلى قراءته. فجماله منفصل عن اللغة.

لكنّ الرجل لم يفتتن بالحروف العربية فحسب، بل افتتن أيضاً بالكتابة المسمارية السومرية، وكذلك بالأشكال التصويرية الهيروغليفيّة. ومن هذه الخطوط المختلفة أسّس أبجديته الفنية التي لازمته طوال حياته.

وتأثر "كلي" أيضاً بالزرابي (السجاجيد) التونسية وزخارفها وألوانها. وربما وجدنا اللوحة تتحوّل إلى قطعة من النسيج تحمل رموز السجاد التونسي وعناصره الزخرفيّة.

كما استلهم الفنان المعمار العربي، بحسب الناقد سمير غريب: "كان كلي شديد الإعجاب بالعمارة المغاربيّة. استوحى منها ما أطلق عليه "عمارته التصويرية". كان منبهراً بالمظاهر التصويرية للعمارة مثل الممرات الضيقة والظلال المدهشة، وأكثر من ذلك التكوين الهندسي التكعيبي للمباني المغاربية الأندلسية ولمنشآت المدينة وزخارفها.

اعترف بول كلي أن زيارته إلى تونس التي انطبعت في أعماقه إلى الأبد، علّمته أنّ "هدف الفنّ ليس رسم الأشياء بل جعل غير المرئي مرئياً". وكأنّه بذلك يبشّر بكلّ التيّارات الفنّيّة التي ستظهر خلال القرن العشرين موظّفةً الكشوفات النفسية والمبادئ العرفانية.

نشير أخيراً إلى أن هذه الاحتفاليّة ستستمر إلى آخر السنة في عدد من المدن التونسيّة، وبخاصة في تونس والحمّامات والقيروان، أي المدن التي ألهمت الفنّان وأتاحت له، على حدّ تعبيره، "اكتشاف الضوء واكتشاف اللون".

المساهمون