سيطر هاجس الموت على بول كلي في أواخر حياته، إثر مهاجمته من النظام النازي واتهامه بالبلشفية الثقافية، استناداً إلى ميوله اليسارية، حيث عاد إلى مسقط رأسه ومنفاه في مدينة برن، وانهمك في تصوير الوحوش والملائكة وتخيّل اللغة التي يتواصل فيها المصابون بالأمراض العقلية.
شكّلت تلك الفترة أزمة بالغة في حياة الفنان الألماني السويسري (1879 – 1940) واجهها بالسخرية والتهكّم من كل الأفكار الظلامية التي كان متشائماً حيال هيمنتها في أوروبا آنذاك، وربما أثّرت إصابته بمرض تصلّب الجلد في رؤيته للفن عموماً، متوقعاً كلّ ما هو أسوأ.
حتى الحادي والثلاثين من الشهر المقبل، يستعيد "فضاء ديفيد زويمر" في لندن أعمال كلي والأنماط المرئية المتنوعة التي قدّمها من أوائل الثلاثينيات حتى رحيله، وكان المعرض قد افتتح في السادس من آذار/ مارس الماضي قبل أن يغلق بسبب الإجراءات المفروضة لمواجهة جائحة كورونا، ويعاد افتتاحه مؤخراً.
يعود المنظّمون إلى عام 1931، حيث كان الفنان يدرس ويعمل كأستاذ في "معهد دوسلدروف" في ألمانيا قبل أن يتم طرده من العمل، ضمن سياسات القمع التي مارسها نظام هتلر ضدّ الممارسات الفنية الطليعية، ما اضطره إلى العودة إلى سويسرا، ورغم مرضه الذي أصابه عام 1935، إلا أنه عمل بقوة ونشاط كبيرين متأثراً بالاضطرابات الاجتماعية والسياسية الهائلة التي قادت إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945).
ويشير بيان المعرض إلى أن تلك الفترة "شهدت زخماً وكثافة في نتاجاته ربما تضاهي ما قدّمه في بدايات شبابه، حيث استمّد حيوية من خلال سعيه الواعي للتصالح مع المرض، بحيث وضع نفسه في مواجهة الموت، فنفّذ أعمالاً متأخّرة ذات قيمة فنية عالية، ولأنه وجد جمهوراً متزايداً على أعماله؛ خاصة في بريطانيا حيث أقيم له معرض هناك سنة 1939 وفي الولايات المتحدة التي استضافت معرضاً له بين عاميْ 1934 و1935، ازدادت دافعيته للعمل بشكل نوعي".
مثلّت الأعمال المعروضة مقاومة للموت الذي كان يتوقّعه كلي في أية لحظة، وللموت الآخر الذي بات يتهدّد الفن ويتطلب مواجهة شاملة من قبل الفنانين، حيث تشكّل الخطوط الواضحة أساس سلسلة من الرسومات التي غالباً ما تكون ذات طابع يومي وشخصي للغاية، حيث يمزج فيها الفنان بين التكوين المجرّد تماماً وبين رسومات تشخيصية تحاكي وجوهاً مقنّعة.
في أحد الأعمال المعروضة بعنوان "رسم تخطيطي للقتال" (1939)، نشاهد وجهاً وجسداً ضمن تركيبة من الخطوط الهندسية الملتوية التي يغطيها اللون الأحمر والبرتقالي والأصفر، ويتألف من ألوان زاهية تقابل خطوط الرسم الداكنة، ما يخلق تباينًا ديناميكيًا قويًا يحرك التكوين.
تتنوع الأعمال في موضوعها وأسلوبها، وهي سمة تميّز الفنان الذي كان يواجه كآبته عادة بخلق طرق ووسائط جديدة للتعبير عن نفسه، وليس الاستسلام لنمط ما بعينه، والمواد اللاصقة والشحوم والزيوت والطباشير والألوان المائية، ما يخلق أسطحاً لا تبدو بصرية فحسب، ولكن قابلة للمس أيضاً، وهو ما يمنحها خصوصيتها، كما تُقدَّم أيضاً دراسات أجرتها الباحثة بريجيت ريلي التي تختص بدراسة التجريد في تجربة كلي.