بوتفليقة والسلطة في الجزائر
منذ اعتلائه كرسي الرئاسة، قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، تحول عبد العزيز بوتفليقة إلى رقم مهم في المعادلات السلطوية الحاكمة لسير الأمور في الجزائر، ولم يكن ذلك بالضرورة انطلاقاً من عنصر قوة ذاتية، مكنته من اختزال منظومة الحكم في شخصه والدائرة المحيطة به، بل الامر مرتبط أساسا بالظروف والتطورات الحاصلة داخل النظام المتسلط، والتي حتمت الاعتماد على توازن دقيق بين عمق الشرعيات التقليدية المهيمنة على دواليب القرار منذ أمد بعيد وارتفاع الواجهة السياسية وحيويتها الموجهة نحو السطحين، الداخلي والخارجي، ممثلة بشخص رئيس الدولة. وبناء على هذا التصور، يمكن الربط منطقياً بين صعود الماكنة البوتفليقية وحاجيات السلطة للتعامل مع المرحلة السياسية والاجتماعية في الجزائر، بعد عشرية التسعينيات الدموية. إذ أعطى بوتفليقة كاريزما مدنية للكيان السلطوي، وخفض من اعتماديته الطابع العسكري المباشر، وهي، في المعاني السياسية، أفضل مرادف للدخول تحت ظل الاستقرار، بعد أزمة استعملت السلطة، في أثنائها، الحل الأمني والقوة العسكرية ضد المسلحين الإسلاميين، حيث كانت الجزائر مرشحةً لتلج طوراً من الانتقال الديمقراطي.
يتضح أن مبادرات بوتفليقة عن المصالحة والوئام المدني، ولمسته الخاصة في المشهد السياسي والحزبي، ليست إلا محاولة لإعطاء صورة عن جزائر مدنية، تختلف شكلياً عن جزائر الحزب الواحد، أو الجزائر التي تهيمن عليها المؤسسة العسكرية، قلباً وقالباً، بذريعة محاربة الإسلاميين. وبذلك، تجدد السلطة أوراقها، إذا اقتضت الحاجة، فيما ترسخ جذورها في الأعماق، وتبعدها عن سطح التداول أو الصراع.
السلطة في الجزائر تعني مجموعة الدوائر النافذة في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية، بخلفيات عسكرية ومدنية، والتي تشكل ما يشبه مجلس الإدارة، حيث يصدر القرار عنه جماعياً، وتخضع لهيمنته كل مؤسسات الدولة، وبالتالي، لا يصح أن يقال إن السلطة هي مؤسسة الرئاسة، أو إنها المؤسسة العسكرية، أو الأمنية، فالأخيرة ليست سوى أدوات لآلية الحكم الحقيقية. يجب أن نفهم أن الفوز المتكرر لبوتفليقة في الانتخابات المتتابعة، وصعود التحالف الحزبي والاقتصادي التابع له، لم يكن سوى قرار من قرارات "مجلس إدارة الجزائر" لغايات وأسباب موضوعية، تضمن ديمومة العنفوان للنظام القائم، إلا أنه في الموازاة مع الصرامة السياسية والدقة في تحريك الدواليب السلطوية، لم تغب مظاهر الانقسام بين الإرادات داخل أركان السلطة نتيجة طبيعية لنشوء مصالح ذاتية، خاصة بكل طرف يبحث عن الاستفراد بالمكاسب لنفسه، وهذا ليس غريبا عن التاريخ الجزائري، فعدة شواهد تبرز حجم هذه الظاهرة الممثلة بالانقسام، إذ أثرت، نسبياً على محطات سياسية كثيرة للجزائر خلال الثورة التحريرية، أو بعد الاستقلال عن فرنسا، تستعمل في صراعات الانقسام وتصفية الحسابات في ميادين السياسة والاقتصاد والعدالة بحيث تجير الأحزاب وملفات الفساد والفضائح الشخصية والأحوال الشخصية الصحية لخدمة فريق ضد آخر. في هذا السياق، حاول بوتفليقة أن يعزز نفوذه على حساب المؤسسة العسكرية، ممثلة في رئاسة أركان الجيش، ولما نجح في ذلك بدعم الجهاز الأمني وتحالف حزبي، يضم في صفوفه إسلاميين معتدلين، فقد ازدادت أسهمه سلطويا باكتسابه مظهر رئيس قوي، يستطيع أن يرعى مطامح الحاكمين.
ولكن، مع مرض بوتفليقة وتدهور حالته الصحية، وطول عهد حكمه السلطوي، أصبح ملف خلافته الشغل الشاغل داخل بيت السلطة، التي تحاول تقليدياً أن لا تشكل خلافة بوتفليقة فرصة لتقديم تنازلات كبيرة في ظل السياق الإقليمي والعربي المؤيد للديمقراطية والإصلاح. لقد أطلق هذا الموضوع موجة جديدة من الانقسامات وظهر جليا خلال انتخابات الربيع المنصرم كيف أن هناك أطرافا ومؤسسات عارضت ترشح بوتفليقة لعهدة رابعة في مقابل مؤسسات أخرى داعمة له، مثل أركان الجيش التي أصبح لها قائد موال للبوتفليقية. ويعتقد، على نطاق واسع، أن فوز بوتفليقة، في الآخر، على الرغم من حالته الصحية الصعبة، لم يكن سوى نتيجة لقرار آخر من قرارات المجلس، حيث فضلت السلطة الاستفادة إلى الرمق الأخير من البوتفليقية، في الوصول إلى الضفة المقابلة، ثم تعلن عن ترتيبها المرحلة المقبلة، حيث ستوازن، في تشكيلتها الشخصية والقيمية، بين متطلبات التيارات المتعارضة داخل البيت العتيد بأن تدخل مفهوم فيدرالية الحوكمة إلى الأجندة، وتضبط امتدادات الواقعية في الجغرافيا الجزائرية.
ما بعد بوتفليقة عهد آخر، تضطرب من أجله الإرادات لمنحه سمة فريدة. حيث تسعى البوتفليقية، وإن غاب بوتفليقة الشخص، للحفاظ على موقعها كطفلة السلطة المدللة، وربيبتها في النهب والتربح وترويج الثقافة الاستهلاكية الجوفاء لدى الأوساط الشعبية. بيد أنه بموازنة المكاسب والخسائر ومع التهديدات الأمنية والتحديات الكثيرة، قد لا تكون المرحلة المقبلة مستقرة تماما ليظهر فيها ربيع البوتفليقية مثلما هو عليه الآن. والجزائر ليست مجرد سلطة وموارد فهناك شعب وحاجات اجتماعية ورغبة في التحول لن تبقى مكبوتة إلى آخر الدهر. والاستمرار في النهج الحالي قد يؤدي إلى الانتقال العسير الناجم عن الانفجار، فالحل دائما يكون باستغلال الفرص والفتحات الممكنة لتغيير الأوضاع والعقليات.