وهو إعلان يثير الاستغراب، لكون بلمختار هو مؤسس هذه الجماعة وزعيمها منذ انشقاقها عن تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، وزعيمها عبدالملك درودكال في أغسطس/آب 2013. غير أنّ بيان "المرابطون" حمل في طياته معلومة أخرى أكثر أهمية ذلك أنه عرف الجماعة بكونها "قاعدة الجهاد في غرب أفريقيا لإخراج العدو الصليبي الذي احتل أرضنا في فرنسا وأعوانها واستهدافه في كل مكان"، ما يؤشر إلى اعتزام الجماعة التحول إلى تكتل لمختلف الجماعات المسلحة المتطرفة الناشطة في منطقة الساحل والصحراء الكبرى لقتال القوات الفرنسية وحلفائها.
كذلك حمل البيان في طياته تصحيحاً أيديولوجياً أساسياً يؤكّد مناهضة الجماعة لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وفرعه الناشط في ليبيا وولاءها لتنظيم "القاعدة" التاريخي. وقال البيان إن الجماعة "تتشبث بمنهج أهل السنة بعيداً عن الغلو والإرجاء"، وتلتزم "بتوجيهات إمام العصر في الجهاد الشيخ أسامة بن لادن رحمه الله. وندين ما صنعت دولة البغدادي وقادتها من اجتهادات ومخالفات غير شرعية، من تفريق صفوف المجاهدين وسفك دماء المسلمين المعصومة وندعوهم للتوبة والأوبة إلى لله".
اقرأ أيضاً: "القاعدة" و"داعش" في الجزائر... الصراع الخاسر
وتبقى الرسالة الأساسية لهذا البيان هو التحدي الواضح للقوات الفرنسية وحلفائها في المنطقة والتأكيد أن بلمختار حي أكثر من أي وقت مضى بعدما أُعلِن عن مقتله مرّات عديدة، وأنه عازم على توجيه المزيد من الضربات الموجعة لخصومه في المنطقة. لكن من يكون هذا الرجل/اللغز، وما هو المسار الذي يوجه واحد من أهم قادة التنظيمات المسلحة المتطرفة في الساحل والعدو رقم واحد للقوات الفرنسية والأميركية التي رصدت خمسة ملايين دولار لمن يقدّم معلومات تقود إلى اعتقاله؟
وُلد بلمختار في يونيو/ حزيران 1972 في مدينة متليلي بولاية غرداية جنوب الجزائر، وهي المدينة المحاذية للصحراء، وتعتبر معقلاً لقبائل الشعانبة العربية. برز اسم الشعانبة أخيراً عندما دخل أفرادها في مواجهات دامية مع قبائل المزابيين البربرية في ولاية غرداية.
ومختار سليل عائلة معروفة بنضالها ضد المستعمر الفرنسي. وقد سماه والده مختار تيمناً بعمه مختار الذي أعدمه الجيش الفرنسي في الخمسينيات. ومن هنا جاء حقده الدفين على فرنسا ووجودها في المنطقة. وبحسب الإعلامي والباحث الموريتاني الأمين ولد سالم، صاحب الكتاب الوحيد المخصص لمختار بلمختار، "بن لادن الصحراء"، فإن الفتى مختار تلقى تربية دينية أصولية في محيطه العائلي ولم يكمل تعليمه الثانوي. وهاجر عام 1989 إلى أفغانستان ضمن أفواج العرب الأفغان الذين قاتلوا الروس ثم حكومة كابل لاحقاً. تمرس بلمختار في أفغانستان على حرب العصابات، وفقد عينه اليمنى في إحدى المعارك.
وعند اندلاع الحرب الأهلية بين السلطات الجزائرية والإسلاميين عام 1992، سارع بلمختار إلى العودة للجزائر وانضم إلى الجماعة المتطرفة المسلحة ليصير واحداً من أهم قادتها الميدانيين بفضل خبرته القتالية وشراسته في مواجهة القوى الأمنية.
وبعد خفوت المواجهات مع القوى الأمنية الجزائرية التي استطاعت كبح جماح الجماعات المتطرفة وعزلها في المناطق الجبلية، توجه بلمختار جنوباً إلى الصحراء، وأسس كتيبة "الملثمين"، فرع "القاعدة" في بلاد المغرب الإسلامي في الصحراء وشمال مالي. وانتهز الفوضى الأمنية في شمال مالي والصراع المسلح بين جماعات الطوارق والجيش المالي لينسج شبكة علاقات واسعة مع القبائل العربية والطوارق، واستقطب العديد من أبنائها، وأغدق عليهم المال والسلاح. كذلك أتاح له زواجه بفتاة من قبيلة أولاد إدريس، المتفرعة عن البرابيش، وهي قبيلة عربية كبيرة تعيش على الحدود بين الجزائر ومالي وموريتانيا والمغرب، الاستفادة من بيئة محلية حاضنة زادته قوة وهيبة في المنطقة.
في نهاية عام 2007، لم يكن مختار بلمختار معروفاً خارج حلقة ضيقة من المسلحين المتطرفين الجزائريين وأجهزة الاستخبارات في المنطقة. وبرز اسمه عندما هاجمت مجموعة من المسلحين مدينة ألغ في جنوب شرق موريتانيا، وقتلت عائلة فرنسية مكونة من أربعة أشخاص في 24 ديسمبر/كانون الأول 2007، ليلة الاحتفال بعيد ميلاد المسيح. وتبين بعد بضعة أشهر أن العقل المدبر للعملية هو مختار بلمختار الذي سيرغم الفرنسيين على إلغاء "رالي باري داكار" (سباق السيارات) في السنة الموالية بسبب تهديداته بالتعرض للسباق في المنطقة.
لكن بلمختار، والذي كان آنذاك قيادياً ميدانياً في تنظيم "القاعدة" في بلاد المغرب الإسلامي كان اسماً رائجاً في المنطقة، وكان مجرد ذكر اسمه أو لقبه الشهير "الأعور" يثير الهلع في الصحراء الكبرى الممتدة من جنوب جزائر إلى موريتانيا ومالي والنيجر. ذلك أنه كان وراء هجوم دموي في يونيو/ حزيران 2005، حين أباد حامية عسكرية للجيش الموريتاني تدعى المغيطي قرب الحدود مع المغرب، ونحر أعضاءها الثمانية عشر بحدّ السكين.
بموازاة ذلك، تمكّن بلمختار في سنوات قليلة من تكديس ثروة ضخمة من خلال نشاط جديد ومربح يتمثل في خطف الرهائن الغربيين. وحصل عام 2003 على أول فدية بلغ قدرها 5 ملايين يورو، مقابل تحرير 17 سائحاً أوروبياً اختطفهم من جنوب الجزائر. وعام 2008، حصل على مليون يورو مقابل إطلاق سراح دبلوماسي كندي يدعى روبيرت فاولر ومساعده كان خطفهما في النيجر. كذلك حصل على فدية ضخمة لقاء إطلاق سراح ثلاثة إسبان وإيطاليين خطفهم عام 2009. وبحسب المراقبين، فإنّ ثروة بلمختار صارت تقدّر بأكثر من 100 مليون يورو بفضل عمليات الخطف.
إلى جانب الخطف، كان بلمختار على علاقة متينة بشبكات التهريب التي تنشط بمنطقة الساحل. وانتشرت شائعات قوية تؤكّد تزعّمه لشبكة ضخمة تنشط في تهريب المخدرات والسجائر. وصارت التقارير الغربية تنعته باسم "مِستر مارلبورو". غير أن الباحث الموريتاني الأمين ولد سالم الذي التقى بالعديد من المقربين من بلمختار أكد في كتابه "بن لادن الصحراء" بأنّ المخابرات الجزائرية هي التي روّجت لهذه الفرضية من أجل تلطيخ سمعة بلمختار، وأن الصحافة الغربية تلقفت هذا النعت واستعملته من أجل الإثارة. وبحسب الباحث الموريتاني، فإن "بلمختار متشبع بعقيدة جهادية صلبة ويحرم الكحول والمخدرات والسجائر على رجاله وهو لا يقبل بتجار التهريب في صفوفه سوى بعد توبتهم". في المقابل ينشط بلمختار على رأس شبكة ضخمة في تهريب كل أنواع البضائع الأخرى من مواد غذائية وبترول وسيارات.
وعام 2012، كان بلمختار في مقدمة القافلة المسلحة التي دخلت مدينة تومبوكتو، وأعلنت الشمال المالي منطقة إسلامية. غير أن إطلاق فرنسا لعملية "سرفال" العسكرية بهدف تطهير شمال مالي ومنطقة الساحل من المتطرفين المسلّحين دفعت بلمختار إلى الهروب من الشمال المالي. ومنذ ذلك الحين لم يعرف أحد أين يتخفى، على الرغم من أن الكثير من الشائعات تحدثت عن استقراره في الجنوب الليبي.
وفي خضم التدخل الفرنسي، أسس بلمختار تنظيماً جديداً سماه "الموقعون بالدم"، وتحدّى الفرنسيين والجزائريين بعملية دموية نوعية رسخت أسطورته، حين هاجم العشرات من أتباعه منشأة ضخمة لإنتاج الغاز في عين أميناس جنوب الجزائر في منتصف يناير/ كانون الثاني 2013 واحتجزوا مئات الرهائن ثم قتلوا 37 أجنبياً منهم بريطانيون وفرنسيون وأميركيون. وأظهرت هذه العملية دهاء وقوة بلمختار الذي نفذ العملية على الرغم من ملاحقة الفرنسيين له في شمال مالي، وعلى الرغم من المراقبة الجزائرية للحدود. وانتهت العملية التي دامت ثلاثة أيام كاملة بمقتل 29 مسلّحاً من المهاجمين بعد اقتحام الجيش الجزائري المنشأة.
هكذا هو إذن بلمختار، "ثعلب الصحراء" الزئبقي الذي ما إن يظهر حتى يختفي بين الكثبان والأحراش على الرغم من الطائرات الفرنسية من دون طيار وأقمار التجسس الأميركية التي تترصده. وإذا كانت القوات الفرنسية قد نجحت في الإجهاز على غالبية رجاله المقربين في الأشهر الأخيرة، فقد عجزت حتى الآن عن اقتفاء أثره.