بلغار مدينة بائدة لم يبق في موقعها اليوم سوى بعض الأطلال الأثرية وبعض المباني المجددة. وهي إلى ذلك مدينة غير معروفة في العالم الإسلامي، ولو أنها لعبت أدواراً تاريخية مهمة كان يمكن لها أن تغيّر مسار الأحداث في آسيا وأوروبا. فالمدينة كانت عاصمة لأول دولة إسلامية على حوض نهر الفولغا بين القرنين العاشر والسادس عشر. وكانت أيضاً مركزاً مهماً للتجارة بين الشمال والجنوب تمرّ عبرها بشكل خاص تجارة الفرو و"العبيد" الذين كان منهم بعض المماليك الذين حكموا دولاً عظيمة في العالم الإسلامي القروسطي. وكانت بلغار ودولتها أيضاً، ولقرون عدة، السد المنيع الذي حد من الاندياح الروسي في آسيا الذي لم يحصل إلا بعد انهيار خانات قازان والقرم خليفتي دولة البلغار في القرن السادس عشر وانكشاف سهوب آسيا المسلمة أمام آلة الحرب والاستعمار الروسية القيصرية.
البلغار هم شعب من الشعوب التركية المرتحلة الذين جاءوا من شرق بحر قزوين واستقروا على ضفاف الفولغا في القرن السادس في حين أكملت مجموعة منهم المسير غرباً لكي تستقر على ضفاف الدانوب وتعطي اسمها لدولة بلغاريا اليوم. وقد أسلم بلغار الفولغا في بداية القرن العاشر ولا نعرف كيف وإن كان المرجح أن التجار المسلمين قد لعبوا دوراً مهماً في ذلك.
أول من أشهر إسلامه كان الملك ألمش بن يلطوار (تحريفاً على الغالب عن ألمس إلتبير) حوالي العام 920. وأرسل إلى الخليفة العباسي المقتدر سفارة يطلب اعترافاً وعلماء يفقّهون شعبه بمبادئ الدين الإسلامي ودعماً مالياً يساعده على بناء جامع وقلعة في عاصمته، إذ إن مملكته كانت محاطة بأعداء أقوياء، وبشكل خاص الخزر يهوديّي الديانة إلى غربه الذين فرضوا عليه جزية سنوية. وقد استجابت الخلافة له بإرسال سفارة عام 921 كان الفقيه فيها أحمد ابن فضلان الذي ترك وصفاً مسهباً للرحلة يعد من أروع وأغرب الرحلات في الأدب الإسلامي المبكر.
رسالة ابن فضلان هي أول نص تاريخي يصف من يسميهم بالروس: بحارة وتجار في الفولغا (نهر أتل عند المسلمين) شاهدهم ابن فضلان قرب بلغار حيث أقاموا قباباً لتجارتهم. وهو يصفهم ويصف عاداتهم وصفاً مسهباً خاصة فيما يتعلق بأشكالهم وحياتهم اليومية وعباداتهم ونظافتهم وحياتهم الجنسية ومراسم دفن الزعماء عندهم مما يعطي صورة إثنوغرافية متكاملة عن هذا الشعب الذي ربما كان من فايكنغ الشمال أو من الروس الأوائل قبل اعتناقهم المسيحية في نهاية القرن العاشر.
وقد اشتهرت هذه الرحلة في روسيا والغرب أكثر من شهرتها في موطنها الأصلي لأسباب متعددة. وقد حولها الروائي الأميركي مايكل كرايتون إلى رواية أكثر غرائبية من أصلها تحت عنوان "آكلو الموتى" خلط فيها بين نص ابن فضلان ونص الأسطورة الإنكليزية بيوولف، ثم أنتجتها هوليوود في فيلم مغامرات حوّرها كثيراً تحت عنوان "المحارب الثالث عشر" قام الممثل الإسباني المشهور أنطونيو بانديراس بدور ابن فضلان فيه.
رسالة ابن فضلان هي أيضاً أول لقاء إسلامي بالروس، يبدي فيه كاتبنا إعجابه وتعجبه، واشمئزازه في الآن نفسه، من هؤلاء القوم الغلاظ والأشداء، البدائيين حضارة والقذرين تصرفاً، خاصة بالنسبة لابن بغداد المرفه، وإن كان فيهم حس بالانتماء والتآخي أدركه ابن فضلان وإن عافت نفسه مظاهره في تشاركهم بماء الغسل وبمضاجعة الجواري. هؤلاء الروس سيعودون إلى بلغار بعد قرون عدة، وبعد أن تحوّلت إلى مدينة مغولية (أو تترية حسب عبارة اليوم) إثر الغزو المغولي المدمر في القرن الثالث عشر، لكي يقضوا عليها وعلى كل خانات قازان ويضموها لروسيا الصاعدة على عهد القيصر إيفان الرهيب (1547-1584).
عانت منطقة بلغار الفولغا وغيرها من مناطق الخانات الإسلامية التي خلفت دولة القبيلة الذهبية على حوض الفولغا كثيراً من عسف الروس الذين كانوا ينتقمون من قرون الاستبداد المغولي في بلادهم. فهم قد دمروا المدن وقتلوا السكان وأجبروا من بقي منهم على التحول للمسيحية الأرثوذكسية لقرون عديدة قبل أن تسمح القيصرة ألمانية الأصل يكاترينا الثانية (1762-1796) لهم ببناء المساجد وممارسة شعائرهم، ولكن بعد أن كانت قواتها قد قضت على كل وجود إسلامي سياسي شمال البحر الأسود وسحقت خانات القرم.
تواصلت الجهود الروسية منذ ذلك الحين لـ "ترويس" القوقاز والقرم والفولغا عن طريق إعادة توزيع السكان والتضييق على الحريات الدينية وتطبيق نظام تعليم روسي يسعى إلى محو اللغات القومية، ونجحت في ذلك إلى حد كبير. ولم يغيّر تحوّل روسيا إلى الشيوعية هذه السياسة، بل إن ستالين قام بأفظع عملية تهجير قسري عام 1944 عندما نقل كل تتار القرم إلى أوزبكستان. وقد تغيرت الأحوال شيئاً ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وعاد الكثير من تتار القرم إلى بلادهم ولكن سياسة الترويس ما زالت قائمة وإن بوتيرة أخف وألطف.
على هذه الخلفية التاريخية رأيتُ بقايا مدينة بلغار الشهر الفائت عند زيارتنا لها ضمن إطار احتفالية "جائزة الآغا خان للعمارة الإسلامية". موقع يحمل أنين قرون من الترويس الإجباري الذي دمّر المدينة القديمة وأقام مكانها كنيسة أرثوذكسية ترتفع ضمن خرائب القصر الإسلامي التتري. ولكن مشروع الترميم الذي قادته حكومة الرئيس التتري الأول منتيمير شيمايف (اسمه الأول يعني "أنا حديد" وهو كذلك) على ما يبدو لي، هو محاولة ذكية ورقيقة لاستعادة هوية المدينة الإسلامية وإن رمزياً. فالمشروع، الذي حصل على ختم اليونسكو كتراث إنساني عام 2014، أضاف للموقع قبّة مذهبة سلجوقية بامتياز تحوي أكبر قرآن مطبوع في العالم، يحج إليها مسلمو التتر من كافة أرجاء روسيا.
وقد تضمّن المشروع أيضاً ترميم قبتي دفن لعائلتين تتريتين نبيلتين من القرن الرابع عشر وبناء مئذنة مدوّرة جديدة على أنقاض مئذنة جامع القصر الذي لم يبق منه سوى قواعد أبراجه الأربعة وبعض بقايا الأعمدة وشواهد قبور مختلفة التواريخ. وبالقرب من هذه المنطقة الأثرية المفعمة بالذكريات، بنت الحكومة مركزاً إسلامياً كبيراً لتدريس الفقه والعلوم الإسلامية مع جامع فاخر يشبه في عمارته إلى حد كبير الجوامع المصرية من منتصف القرن العشرين الذي ينسب طرازها إلى المعماري ماريو روسي الذي كان مهندس الأوقاف المصرية لعقود.
ولكن ما لفت نظري بشكل خاص هو الحركة التخطيطية البارعة التي قام بها مصمّمو هذا الموقع التاريخي حين رفعوا مئذنة جامع القلعة من دون أن يعيدوا بناء الجامع وجعلوا طريق الوصول إليها من مدخل المدينة يمر قرب القبة الذهبية بحيث يطغى امتشاق شكلها على أبراج الكنيسة الروسية خلفها مما يضفي على المنظر كله صبغة إسلامية على الرغم من انتفاء وجود جامع ووجود كنيسة في الموقع. وهكذا على ما أظن يريد هذا السياسي الداهية أن يعيد للعاصمة القديمة الأثرية، التي شهدت أول لقاء بين مسلمي البلغار والروس، رونقاً إسلامياً من دون أن يتحدى النظام الروسي المهيمن أو يزيل آثاره.
* مؤرخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا