بلد الأهرامات المنسية: آثار السودان بين استعادة وترميم

12 مايو 2017
(من أهرامات النوبة، دي أغوستيني)
+ الخط -


شهدت الأشهر الأخيرة صعود قضية الآثار السودانية إلى واجهة التداول الإعلامي بعد أن كانت شبه منسية، من خلال سجالات في مصر أو مع تواتر البعثات البحثية.

للحديث عن القضايا المتعلقة بـ الآثار السودانية، التقت "العربي الجديد" المدير العام لـ"هيئة الآثار والمتاحف" في السودان، عبدالرحمن علي، الذي يعتبر أن "السنوات الأخيرة تشهد اهتماماً حكومياً متزايداً بـ حماية الآثار وحسن توظيفها، وهذا الاهتمام تتعدّد أشكاله، من تهيئة المواقع الأثرية إلى استرجاع الآثار مروراً بالبحث والحفريات وعمليات الترميم".

الحديث عن السياحة الأثرية لعله يقودنا إلى السجالات المحتدمة في مصر حول الآثار السودانية وصولاً إلى عدم الاعتراف بالأهرامات السودانية، حيث يرى كثيرون أن سببها هو تخوّفات من تقاسم السودان عائدات زيارة الآثار الفرعونية مع مصر.عبد الرحمن علي

حول ذلك، يقول علي: "للمصريين ما يميّز حضارتهم ونحن كذلك، وهناك تداخل ثقافي مشترك بين البلدين لا يمكن إنكاره". يضيء هنا المسؤول السوداني بعضاً من الجوانب التاريخية؛ يقول "يندمج تاريخ مصر والسودان عند الأسرة الخامسة والعشرين حيث حكم كل من كاشتا وبعانخهي السودان ومصر معاً، وحين احتلّت مصر من الهكسوس جرى إحياء الحضارة الفرعونية هنا، فشيّدت المعابد والمعالم ذات الطابع المصري القديم، كالمسلات والأهرامات، وتمصّر جزء من سكّان السودان وقتها من خلال عبادة الإله آمون، وهذا التاريخ المشترك يمتد إلى فترات لاحقة، لأن المصريين دخلوا السودان ووصلت حدودهم حتى الشلال الثالث ووصلوا حتى قرقوس وجبل المروة".

بخصوص قضية الأهرامات، يكشف علي بعض المعطيات، إذ يقول إن "السودان يحتضن أكبر تجمّع للأهرامات على مستوى العالم، حيث يوجد بمنطقة البجراوية (شمال السودان) وحدها ما يزيد عن الثمانيين هرماً". ومن جهة أخرى، يشير إلى "تنوّع معمار الأهرامات السودانية، من هرم ليس سوى (كوم تراب)، إلى (كوم) شيد حوله سور، إلى مصطبة، حتى وصل إلى شكل الهرم المدرّج والمسلوب".

حيال هذا الموروث الأثري، قد يتبادر إلى الأذهان ما تعيشه وعاشته الآثار في المنطقة العربية من عمليات نهب وتخريب والتي تقابلها سياسات حماية ومحاولات استرجاع، فأين هو السودان من كل ذلك؟

يقول علي: "هناك مجموعة من الآثار خرجت من البلاد في الفترات الاستعمارية المختلفة، منذ فترة محمد علي باشا إلى الحكم الثنائي الإنكليزي المصري". يشير هنا إلى أن ثمة العديد من الآثار السودانية التي توجد في "المتحف البريطاني" وأخرى في "متحف الاشمولين" في بوسطن، "لكن الإيجابي في الأمر أنها معروضة باسم السودان، وأعتقد بذلك أنها تروّج لحضارته وأنها تمثّل اعترافاً بأن آثار السودان جزء من التراث الإنساني العالمي. ونحن نجري اتصالات مع كل الدول التي تعرض آثارنا كي لا يجري تجاهل اسم السودان حيث يجري الخلط أحياناً مع الآثار المصرية".

يظل السؤال الأكثر إلحاحاً هو ذلك المتعلّق بخطط استعادة الآثار السودانية من المتاحف الخارجية. يجيب علي بأنه "لا يمكن استعادتها، بالنظر إلى قوانين تلك الدول التي تعقّد الأمور، فالآثار التي خرجت عبر المستعمر لا تستعاد، فلا يمكن المطالبة سوى بتلك التي خرجت بطرق غير شرعية، كالسرقة والتهريب وخلافه، كما أن السودان له وضعية خاصة لأنه لم يصادق على عدد من الاتفاقيات الدولية التي تسهّل عملية استعادة الآثار المسروقة، ولكن من جانب آخر يبقى لوجود تلك الآثار في الغرب إيجابياته حيث يوصل حضارة السودان وتاريخه ويروّج لها عند من لا يستطيع زيارة البلد".

من جهة أخرى، يؤكّد علي أن مجموعة من الآثار السودانية خرجت في السنوات الأخيرة بطرق غير شرعية، وبالنسبة لهذه الفئة "نعمل مع الإنتربول الدولي لاستعادتها، وبالفعل استعدنا الكثير منها؛ من بريطانيا وغيرها". عن أشهر هذه السرقات، يحدّثنا علي بأنها تعود إلى تسعينيات القرن الماضي "حيث سُرق تمثالان من الذهب، فضلاً عن سرقة ما يزيد عن تسعين قطعة أثرية".

تنشط العديد من الدول لتسجيل آثارها في قائمة التراث العالمي التي تعدّها اليونسكو، فماذا عن السودان؟ علماً أنه لا يملك اليوم سوى موقعين مسجّلين، هما جبل البركل الذي تم تسجيله في 2003 ومنطقة البجراوية الغنية بالأهرامات التي لم يجر إدراجها إلا في 2011.

يكشف علي أنه يجري الآن الإعداد لتقديم قائمة تمهيدية رشّح لها عدد من المواقع، منها منطقة كرمة الأثرية والمواقع المسيحية في منطقة دنقلا فضلاً عن مواقع الحضارات الفرعونية الموجودة في تمبس وسيس ومواقع الفترات الإسلامية في منطقة الخندق وود نميري، ومدينة سواكن في شرق البلاد، ووادي هور، إضافة لمقرن النيلين وشلال السبلوقة التي يمكن وضعها ضمن التراث الطبيعي العالمي.

مؤخراً، زار مدير "متحف اللوفر" الخرطوم، وهو ما اعتبره البعض مؤشراً على ظهور أكبر للسودان في الساحة الأثرية العالمية. عن كواليس هذه الزيارة، يقول علي: "تناقشنا بالأساس حول مشروع معرض أثري خاص عن السودان يفترض أن ينظّم في متحف اللوفر في باريس سنة 2020، كما سينظّم (المؤتمر العالمي للدراسات النوبية) في أيلول/ سبتمبر 2018، فضلاً عن قضايا تتصل بالبحث في مجال الآثار وتدريب الكوادر، ولا سيما أن هناك اتفاق تعاون أبرم في وقت سابق مع اللوفر ومؤسسات فرنسية أخرى".

مسألة أخرى تلقي بظلالها السلبية على مسألة الآثار في السودان، وهي صغر سعة "متحف السودان القومي" في الخرطوم. يقر علي بذلك، ويرى بأنه يعقّد فرص عرض الآثار وإبراز دور السودان في تاريخ البشرية، لكنه يشير أيضاً إلى وجود مشاريع توسعة من خلال إضافة طوابق جديدة فضلاً عن الاستفادة من الحدائق في باحة المتحف.

يعرّج علي أخيراً على المشروع القطري لترميم الآثار النوبية، والذي يعتبر أنه سيفضي إلى "تأسيس بنيات تحتية للثقافة الأثرية يفتقدها السودان اليوم، حيث تدعمه نحو أربعين بعثة عالمية، كما سيعمل المشروع على صيانة "متحف السودان القومي" كي يبلغ مواصفات عالمية، فضلاً عن تأسيس خدمات بمناطق الآثار". يشير علي إلى أن ما جرى التخطيط له قد "أنجز إلى حدّ الآن بنسبة 30 بالمئة، حيث انطلق المشروع قبل عامين وتوقف لعام كامل، واستأنف نشاطه بعد ذلك، وهو مستمر حالياً ولكن مع تخفيض في الميزانيات".

يعتبر علي أن استكمال هذه المشاريع يؤهّل بلده إلى "مستقبل واعد" في مجال السياحة الأثرية، مشيراً إلى ضرورة دعم ذلك بإجراءات أخرى، مثل إنشاء متحف إلكتروني وبعث متحف في كل منطقة في البلاد، وتنشيط الحضور السوداني في المتاحف والمعارض الأثرية العالمية.

أقدم السرقات الأثرية

يذكر عبدالرحمن علي، أن جزءاً من الآثار السودانية تعرّض للتخريب، بالأساس "أهرامات البجراوية على يد مستكشف إيطالي كان يبحث عن الكنوز، نفس الشخص وجد بالصدفة كنز الملكة أماني شخيتو وذهب به إلى أوروبا وهو معروض في (متحف ميونخ)، وتعد تلك من أوائل السرقات الموثقة في التاريخ".

"لماذا لا تُسترد طالما أنها سرقات موثقة؟"، يردّ علي "للأسف فقوانين الدول الغربية لا تعيد الآثار بعد خمسين عاماً من خروجها". 

المساهمون