يجمع عدد من المختصين في العراق، على أن العام الحالي سيكون قاسياً بشكل كبير على العاصمة بغداد بشكل خاص، إذ تنتظر العاصمة، أزمة مضاعفة في الحصول على مياه الشرب مع اقتراب موعد تشغيل سد أليسو التركي العملاق، على نهر دجلة، والذي تقدر حسابات أولية تأثيره، على أكثر من نصف واردات العراق المائية، ما يدمر مساحات عملاقة من الأراضي الزراعية ويهدد الملايين من العراقيين بأزمة عطش غير مسبوقة.
مع كثرة المطالبات الشعبية والبرلمانية للحكومة العراقية، بالتواصل مع الجانب التركي من أجل التوصل إلى حلول وتفاهمات بشأن المخاطر التي يشكلها السد، إلا أن مصدرا يعمل بصفة خبير في المركز الوطني لإدارة الموارد المائية التابع لوزارة الموارد المائية العراقية، ينفي لـ "العربي الجديد" امتلاكهم أي معلومات ذات قيمة حقيقية، بشأن الخطة التركية لتشغيل السد وملئه بالمياه؛ والتي يتوقع أن تتم قبل نهاية العام الحالي.
الخبير الذي عرف نفسه بلقبه فقط؛ وهو البياتي يشرح الفوائد التي ستجنيها تركيا من سدها العملاق الذي باشرت العمل فيه العام 2006 وبكلفة فاقت البليون دولار، إذ ينتظر الأتراك أن يساهم السد في تقوية القطاع الزراعي بشكل كبير، عبر إضافة مساحات جديدة من الأراضي الزراعية، وكذلك الحال في زيادة إنتاج شبكة الكهرباء التركية بأكثر من 1300 ميغاواط من المقرر أن يتم توليدها، بالاستفادة من الارتفاع الكبير للسد والذي يصل إلى 140 مترا، مشدداً على أن السد يمتلك طاقة تخزين تصل إلى 11 مليار متر مكعب؛ وهي كمية ستعزز وبشكل هائل المخزون المائي التركي، وتمكنه من مواجهة أي نقص يحصل في فصل الصيف.
البياتي استعرض لكاتب التحقيق، جانباً من الأضرار التي سيلحقها السد بالعراق، إذا ما تم تشغيله بالصيغة الحالية، مبيناً أن حصة العراق القادمة عبر نهر دجلة ستنخفض من 20.95 مليار متر مكعب في السنة، يحصل عليها العراق حالياً، إلى 9.5 مليارات متر مكعب بعد تشغيل السد؛ أي ما يزيد على النصف؛ وهو ما سيؤدي إلى جفاف وتصحر أكثر من 7 ملايين دونم (691 ألف هكتار) من الأراضي الزراعية في مختلف المحافظات العراقية التي يمر بها نهر دجلة.
يؤكد الخبير البياتي أن التأثير الأكبر للسد التركي سينعكس على العاصمة بغداد التي تستمد حاجتها المائية الكاملة من نهر دجلة؛ والذي يتوقع أن ينخفض منسوبه الى أكثر من النصف؛ مما يضاعف صعوبة عمل مضخات السحب في مشاريع التصفية والتحلية، لافتاً إلى أن نسبة العجز الحالي في إنتاج المياه النقية بالعاصمة ستتضاعف، وتزداد مساحة الرقعة الجغرافية المحرومة من الماء الصالح للشرب، برغم الوعود الرسمية التي تعهدت بإنهاء مشكلة شح الماء في العاصمة خلال العام الحالي.
عطش العاصمة
حقيقة الوضع المائي في العاصمة العراقية، كان محور الحديث مع المهندس خلدون العضاض الذي استقبل كاتب التحقيق في مكتبه الخاص بالاستشارات والخدمات العلمية في منطقة المنصور "غربي بغداد"، وبدأ من سرد الأرقام التي تبين أن الحاجة الحالية للعاصمة تصل إلى 3500000 (ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف) متر مكعب من الماء الصافي في اليوم؛ وهي كمية لا يتم توفيرها في الوقت الحاضر؛ إذ تزيد كمية العجز فيه عن الـــ 700000 (سبعمائة ألف) متر مكعب في اليوم.
يشرح المهندس العضاض لـ"العربي الجديد" أن تخطيط السلطات المحلية لمعالجة أزمة المياه عبر افتتاح مشروع (ماء الرصافة العملاق)؛ والذي بلغت كلفتة 900 (تسعمائة) مليون دولار لن يغير شيئاً من حقيقة الأزمة الحالية والتي ستتضاعف مستقبلاً، مبيناً أن المشكلة الأساسية تكمن في المياه الخام التي ستنخفض بشكل كبير جداً في نهر دجلة؛ والتي من الطبيعي أن تصبح أكثر تلوثاً بسبب الجريان البطيء الناجم عن الانخفاض، فضلاً عن مشاكل التبخر ونسبة التلوث العالية في النهر، جراء إلقاء مخلفات صناعية ومياه ثقيله في مجراه.
بحسب المهندس خلدون العضاض، فإن أزمة المياه ستكون على أشدها في المناطق الغربية من العاصمة؛ وهي مدن أبو غريب والحصوة والعامرية والجهاد، وكذلك الحال في شرق بغداد في مدن الشعب والعبيدي والكمالية والبلديات والقناة والحسينية، وأماكن أخرى من بغداد التي تعتمد مساحات واسعة منها على المضخات المنزلية في سحب الماء الصافي، بسبب قلته وضعف قوة الضخ في الشبكات الناقلة للمياه إلى تلك المناطق.
يشير المهندس العضاض إلى أن حكومة بغداد المحلية تتحمل مسؤولية كبيرة من الأزمة؛ وذلك من خلال السماح بإنشاء 324 تجمعا عشوائيا للسكن في أطراف وداخل العاصمة، تضم أكثر من 1350000 (مليون وثلاثمائة وخمسون ألف) شخص قدموا من المحافظات، موضحاً أن هولاء جميعاً يحتاجون إلى الخدمات، وفي مقدمتها الماء الصافي؛ مما أضاف ضغطاً مضاعفاً على الشبكة الوطنية للماء؛ والتي تعاني أصلاً من مشاكل التقادم وعدم الصيانة والتجاوزات غير القانونية.
ويرى صاحب المكتب الاستشاري أن الحديث عن تضرر السلة الغذائية، وفقدان الغطاء النباتي المحيط بالعاصمة، وزحف الكثبان الرميلة نتيجة الجفاف، ربما تبدو مظاهر ثانويةً في ظل مخاطر أكبر تمثلها ندرة المياه المخصصة للاستخدام المنزلي؛ وهي كارثة لن تعالجها فكرة حفر الآبار الإرتوازية في الحدائق أو تجارة بيع الماء المنقول بواسطة المقطورات والسائدة في العديد من مناطق العاصمة العراقية.
الحكومة العراقية مدانة
لا يعد السد التركي الخطر الوحيد الذي يهدد نهر دجلة، وفقاً للمستشار الاقتصادي عبد الصمد المشهداني، الذي يلقي باللوم على الجهات الحكومية، وفي مقدمتها وزارة الموارد المائية ويتهمها بالتقصير في إدامة النهر وصيانته ورفع الترسبات منه، وخصوصاً في منطقة العاصمة بغداد حتى وصل تصريف المياه فيه عام 2012 إلى مايقارب الـ700 متر مكعب في الثانية الواحدة، بعد أن كان الرقم يبلغ 1250 مترا مكعبا في الثانية خلال سنة 1985؛ وهي نسبة انخفاض يرى فيها مؤشر خطورة حقيقية على استمرار جريان النهر.
مع استقراره في العاصمة الأردنية عمان، إلا أن المستشار المشهداني سبق له تقديم دراسات متخصصة في مجال المياه للوزارات والمراكز البحثية العراقية، وطالب في إحداها ببذل مجهود حقيقي للحيلولة دون الانخفاض المستمر لمنسوب النهر الذي كان يصل إلى أكثر من 31 مترا في وسط عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وأصبح حالياً لا يتجاوز حاجز الــ25 مترا.
المشهداني يحتفظ على حاسوبة الشخصي بصور أقمار صناعية وخرائط وجداول وبيانات شخصية أو مستقاة من مؤسسات حكومية ومعاهد بحثية، توضح التغييرات السلبية الحاصلة في شكل نهر دجلة وعمقه وعرضه، مؤكداً أنها تظهر وبما لا يقبل الشك أن دجلة دخل مرحلة شيخوخة الأنهار.
يختصر المشهداني في حديثه لـ"العربي الجديد" الخطوات العاجلة الواجب اتخاذها لإنقاذ النهر، والمحافظة عليه في العمل الفوري على صيانته وإدامته بطرق علمية، ووفق توصيات رصينة مع إضافة كميات من المياه يتم ضخها من السدود المقامة عليه وروافده الفرعية، وكذلك التوقف وبشكل نهائي عن "التلاعب العبثي" بأطراف النهر وضفافه، فيما يشدد على أن التفاوض والتواصل مع بلد المنبع (تركيا) يقف في مقدمة هذه الخطوات، من أجل المحافظة على الحصة الحالية في حال عدم إمكانية التوصل إلى اتفاق يؤدي إلى زيادة هذه الحصة.
ويعد نهر دجلة النابع من جبال طوروس في تركيا؛ والبالغ طوله داخل العراق 1400 كيلو متر العصب الأساسي لحياة مجموعة من المدن العراقية الممتدة من الشمال وإلى الجنوب؛ وهي الموصل وبعقوبة وبيجي وتكريت وسامراء والكوت والمدائن والعمارة والقرنة، فضلاً عن العاصمة بغداد، وفي الماضي تم إنشاء 27 سداً على المجرى الأصلي للنهر وروافده؛ وأشهرها سد سامراء والكوت ودوكان وحمرين.
--------
اقرأ أيضاً:
تردي بيئة العرب [5/7].. العراقيون يتناولون اليورانيوم في طعامهم