بصرى الشام : مزج بين القوة والصمت

19 فبراير 2016
نقش روماني في المسرح (Getty)
+ الخط -
إذا أراد الزمان والمكان أن يتحدا ويتحدثا بقوة وصمت وبلاغة البازلت، فبصرى الشام ستكون حديثهم الأول.

ولا تعرف من أين ستبدأ، فلكل حجر فيها حكاياته الطويلة، وهو بصمته يتأهب كي يخبرك ذاكرته. مر عليها الكنعانيون والأكاديون والأموريون والآراميون، الأنباط والغساسنة والرومان المسيحيون والمسلمون. وكل مرحلة، احترمت أوابد المرحلة التي سبقتها. وهذا ما لم يتكرّر بمكان آخر، الأمر جعلها تأخذ حيزاً هاماً جداً لدى علماء الآثار في العالم، ولدى منظمة اليونسكو. فليس فقط مسرحها المدهش الذي بقي كاملاً مع قلعتها، هو الذي أعطاها هذا الحضور، وإنما أيضاً تراكم هذه الحضارات، وبقاء شواهدها كلها حتى اليوم.


بصرى الشام هي أيضاً “يوحورا"، أوّل مدن الأنباط في القرن الثامن قبل الميلاد، وهي" بوسترا" في الفترة الهلنستيّة. أمّا في عهد الملك" تارجان”، حوالي ألف وستمائة قبل الميلاد فهي "نيو تارجة بوسترا”، إذ كانت عندها عاصمة الولاية العربيّة التابعة للروم. وهي أيضاً، مدينة الامبراطور فيليب الأول، وهي مبرك ناقة الرسول، وهي مدينة الجامع العمري، أو جامع بصرى الكبير، الذي يعتبر من أقدم المساجد وأروعها، إذ أنَّه أوّل مسجد بناه المسلمون في سورية. وهي مدينة الكاتدرائية، ذات النموذج المشابه لكنيسة آية صوفيا، والتي بنيت في عام 512 ميلادي. ولكن الأهم، أن بصرى هي مدينة المدرج المذهل الذي يستحق الكثير من الوصف.

يُعتبَر مسرح بصرى، هو الأجمل والأكمل في كل العالم، إذ أنّه يتّسع لأكثر من خمسة عشر ألف متفرج، وكان مجهزاً بمداخل عدة، تسمح لهم بالخروج جميعاً، خلال عشر دقائق بدون أي تزاحم. ويعود للعصر الروماني، لكنّه تميز بهندسة مذهلة، تسمح بتضخيم الصوت، وتقويته، بدون أي استعمال لمكبرات الصوت، فمن يقف على المسرح ويغني، يسمعه الجالس في أعلى المدرج بكل وضوح، ويعود هذا لمعرفة المصمم بأصول السماعيات، وضبط شكل البناء العام، وعمق المسرح وارتفاعه بالنسبة لجلوس المتفرجين.

وقد صمم هذا المسرح المهندس الدمشقي" أبولود ورو ديماشياني”، وهذا هو الاسم الذي أطلقه عليه الرومان، واسمه العربي أبو الدر الدمشقي. وقد لُقِّب بمهندس روما. وهو من بنى أول جسر على نهر الدانوب، وهو من هندس عامود ترجان في روما، ومن اخترع هندسة الصوت والضوء في المدرجات التي عرفتها المنطقة السورية قبل وجود الرومان. ولعل ما حمى هذا المسرح، هي الأبراج التي بنيت ملاصقة له وبشكل متتالي، وكان آخرها الأبراج الخمس التي بناها صلاح الدين الأيوبي، كمحاولة لاحتواء هذه التحفة، وتحويلها لقلعة تصمد في وجه الزمن، إذ قام ببنائها بعلو شاهق، كما أغلق كل المنافذ القديمة للمسرح، ليصبح للمسرح والقلعة معاً، مدخل واحد يمتد فوق جسر خشبي يعلو الخندق الكبير، الذي حفره الأيوبي حول القلعة. وهكذا تحولت هذه القلعة مع المسرح، لكتلة واحدة تجعلك بطلاً من أبطال التاريخ حين تدخلها، وتترك في روحك شعوراً بالعظمة لا ينسى.

إقرأ أيضاً:موقع "بازفيد": هذه هي سورية الجميلة
دلالات
المساهمون