بشرٌ بالشكل فقط

02 مارس 2015

من مشاهد تحطيم التماثيل في الموصل (إنترنت)

+ الخط -

من رأى أولئك الأشخاص الذين ينتمون إلى الجنس البشري بالشكل فقط، وهم ينهالون، بأيدٍ وأجساد غليظة، على آثار المتحف الحضاري في الموصل، تنتابه مشاعر متلاطمة، منها، مثلاً، هل كان أصحاب السكين والمطرقة هؤلاء، الذين يقطعون رقاب الناس من الوريد إلى الوريد، ويحطمون تماثيل ولقى عمرها آلاف الأعوام، بيننا طوال الوقت، ونحن لا نعلم؟ هل كان هؤلاء إخوة وأبناء إخوة وأخوات وأبناء خالات وعمات وأعمام لنا، ويسري في شرايينهم الدم نفسه الذي يسري في شراييننا؟ هل يعقل أن هؤلاء كانوا يجلسون جنبنا في المواصلات العامة، ويذهبون إلى المدارس والجامعات التي نذهب إليها، ويأكلون الخبز الذي نأكله، وكنا نراهم رأي العين، وربما نتجاذب معهم أطراف الحديث؟
هذا ما يخطر ببالي وأنا أرى مآثرهم يوماً بعد آخر، ويتغلبون فيها على أنفسهم، ويفاجئون بها أعمق نقطة مظلمة في أعماقهم. الواحد منا، نحن البشر العاديين، إذا قطع عنق دجاجة ورآها تطير وتتخبط في دمها، يكره بعدها الأكل الذي ذبحت الدجاجة المسكينة من أجله. من يقول هذا الكلام عن الدجاجة، هو نفسه الذي رأى الحرب تجندل البشر، ورأى مستشفيات مكتظة بجرحى وقتلى، جرى إخلاؤهم من جبهات القتال، أو من تحت الردم، هو نفسه الذي يعتبر أن الحرب تجرَّنا إلى واديها المظلم، حتى عندما تكون عادلةً، ولا بدَّ منها، ولا مجال لتفاديها. حتى في هذه الحال، لا يغير عدلُها لونَ الدم الذي يسفك فيها.
كثيرون من جيلي، والسابقين، رأوا حروباً، وربما شاركوا في حروب، ولعلهم قتلوا عدواً أو خصماً في حرب أهلية، ولكني أشك في أن أحداً منهم شارك في جزّ عنق امرئٍ، أو رأى ذلك. فللحرب التي وقودها الناس، بصرف النظر عن علاقتهم بها، قواعد وقوانين سنَّها البشر، كي لا يرتدوا إلى الغابة. هناك قواعد "تنظّم" القتل، و"تحدّد" طرقه. لذلك هناك ما تسمى "جرائم الحرب". الحرب، بحد ذاتها، جريمة. ولكن، لهذه الجريمة قواعد وقوانين لا يجوز أن تتخطاها، وإلا قادك قضاة الحروب إلى القفص. هذه هي المفارقة: الحرب جريمة، ولكن لهذه الجريمة التي لا يحاكم عليها القانون جرائم يحاكم عليها القانون! مثل استخدام أسلحة "محرَّمة" دولياً، قتل أناس لا علاقة لهم بالحرب، اغتصاب نساء البلدان التي تقع تحت الاحتلال، أو تكون طرفاً في حرب، تحطيم إرث البلدان التي تدور عليها الحرب، وتدمير عمرانها، وأشكال هويتها.. إلخ. وليس مصادفة أن اليونسكو دعت مجلس الأمن إلى التحرّك، باعتبار ما قامت به داعش في متحف الموصل الحضاري جرائم حرب.
طبعاً، غلاظ الأجساد والقلوب، القادمون من فتاوى الكهوف، الذين انقضّوا على آثار المتحف، كما لو أنهم ينقضّون على الشيطان نفسه، لم يحطموا كل شيء. هناك قطع لم يحطموها، وهناك لقى لم تهرسها مطارقهم ومناشيرهم. فربما يتذكر قراء هذا المنبر أنني كتبت، قبل جريمتهم الأخيرة، عن متحفي الرقة والموصل، وكيف تمت سرقة أهم محتوياتهما، وبيعت إلى تجار السوق السوداء في الغرب وبلدان عربية، وعن تجارة داعش الغبراء من الآثار التي تشكل الدخل الثاني لها بعد النفط. محتمل أن تكون تلك القطع التي سرقت وبيعت قد نجت بنفسها من مطارقهم ومناشيرهم، وسيكون هناك من يبحث عنها ويعيدها إلى موطنها، ولو بعد حين. ما رأوا أنه يغذي الشرايين في سواعدهم الدموية، ويشحذ سكاكينهم لم يحطّموه، بل باعوه.
لطالما كتبنا عن سرقة مفردات تحضّرنا على يد الاستعمار الغربي، ولطالما شعرنا بالغصَّة، ونحن نرى المتاحف الغربية (المتحف البريطاني، اللوفر، البيرغامون، مثلاً) تغصّ بآثارنا، بل ربما لم تكن هذه المتاحف لتوجد، لولا القطع الهائلة المسروقة من مواقعنا الأثرية التي تعكس سلاسل الحضارات المتراكبة التي تعاقبت على بلادنا. لكن، هل يجانب المرء الصواب عندما يقول، أمام مشهد المطارق الداعشية: كم هي محظوظة، ومرفَّهة، هذه الآثار المسروقة؟

 


 

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن