خلص المفكر العربي عزمي بشارة، إلى أنّ المشكلة الأساسية للرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، ستكون داخليّة، وتحديدًا في الصراع على هويّة الولايات المتحدة الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة، وليس مشكلة الشرق الأوسط أو منطقة المحيط الهادئ، على أهميّة هذه المناطق.
وفي الندوة التي نظمها "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، في الدوحة، اليوم السبت، حول تداعيات فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، قدّم بشارة تحليلًا ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا لظاهرة فوز ترامب، واضعًا إياها في سياق عام لصعود اليمين في أميركا والديمقراطيات الغربية.
كذلك سلّط الضوء على "الخلفية الثقافية" للتحوّل الحاصل في المجتمع الأميركي، والذي ساهم في إنتاج الفوز المفاجئ لدونالد ترامب. وأشار إلى أن هذا البعد الثقافي يجري تجاهله لدى من يحاولون تفسير ظاهرة صعود اليمين في الديمقراطيات الأميركية والأوروبية. وشرح كيف أن الخطاب الفظ والعنصري الذي استخدمه ترامب في حملته الانتخابية، بمستويات تضاهي "خطاب الحانات"، أكسبه تصويت "الرجال البيض الحانقين الغاضبين من تحولات العالم من حولهم" الذين يتملكهم شعور "بأنّ بلادهم تُصادرُ منهم حتى لم يعودوا يعرفونها".
وقد استفاد ترامب من استهدافه المهاجرين في تعزيز هذا الشعور، فمع أنّ الولايات المتحدة دولة بناها المهاجرون؛ إلا أنّ الذين توطنوا جيلًا بعد جيل منهم ينمّون شعورًا بأنّهم سكانٌ أصليون، وأن فقراء العالم يتدفقون إليهم ليشاركوهم ثروات توافرت بجهودهم وعرق آبائهم وأجدادهم.
ورأى بشارة أن المركّب "الثقافي السياسي الخطابي" الذي صعد بدونالد ترامب إلى الرئاسة ليس مقتصرًا على الولايات المتحدة، بل ينتشر لدى فئات واسعة في بلدان الاقتصاديات الغربيّة المتطورة جميعها. وإذا قام رجل طموح من داخل هذه الثقافة، وقرّر في ظروف مؤاتية تحويل "كلام الحانات" هذا إلى خطاب سياسيّ يخاطب فيه غرائز الناس ومخاوفهم، الدفينة منها والصريحة، وتبنّته قوى سياسية واجتماعية وازنة؛ تنشأ ظاهرةٌ مثل ظاهرة دونالد ترامب. وهي قائمةٌ وتتمدد حاليًّا في جميع الدول المتطورة في أوروبا وأميركا الشماليّة، وفي بعض دول أوروبا الشرقيّة، مثل هنغاريا وبولندا والتشيك.
وأضاف أن هذه الظواهر تلتقي مع نزعة أخرى قائمة في بلدان كثيرة في العالم، يعبِّر عنها ما يسمى عادةً "اليمين القومي"، الذي يتمحور خطابه حول فكرة السيادة والمجال الحيوي للدولة أيديولوجيّةً لنظام سلطوي. وتتجلى هذه النزعة، في أوضح صورة، في نموذج بوتين وتحولات النظام في روسيا إلى جمهورية قيصرية. وتنظر العقيدة السائدة في الصين وروسيا إلى انتشار الديمقراطية باعتباره تمدّدًا للثقافة الغربية، فهي أداة للهيمنة الغربية. وهذا يعني، وفق ما يرى بشارة، أن من يتبنّى نظرية صراع الحضارات حاليًّا، على المستوى الدولي، هما هاتان القوتان العظميان، وبشكل خاص روسيا. وربما لو كان صمويل هنتنغتون حيًّا؛ لصدم كيف أصبح صراع الحضارات مذهبًا روسيًّا وصينيًّا في العلاقات الدولية.
وعدّد بشارة خمسة عناصر تجمع بين الحركات اليمينية الجديدة في أوروبا والولايات المتحدة، أوّلها العداء للنخب والمؤسّسة (الاستبليشمنت)، والعداء للعولمة والتجارة الحرة، ومخاطبة خوف الناس من الهجرة الوافدة وموجات اللاجئين، ومخاطبة المشاعر القومية وخوف الناس من ضياع هوية بلدانهم عبر التعددية الثقافية، وتشترك هذه الحركات أخيرًا في العداء للإسلام والمسلمين، والربط بين الإسلام والإرهاب.
وأوضح أن الشعور المتنامي في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية بالقومية المنغلقة الإثنية، غير القائمة على المواطنة، يتركّز لدى كبار السن، ممن يقارنون الوضع الحالي بمراحل سابقة، كانوا فيها يتمتّعون بامتيازات و"يملكون البلاد"، ويتفاقم الشعور بأنها "كانت بلادهم" مع زيادة أعداد المهاجرين المسلمين في أوروبا، وزيادة المهاجرين من غير البيض البروتستانت في الولايات المتحدة الأميركية.
اقــرأ أيضاً
ولفت إلى دور العامل الاقتصادي في تفسير صعود اليمين في أميركا وأوروبا، من تبعات الأزمة المالية الاقتصاديّة عام 2008، وخراب الصناعة في بعض المناطق العماليّة التقليدية، نتيجةً لنقلها إلى دول أخرى بحثًا عن أيدٍ عاملة رخيصة، والتي أسهمت في إشعال غضب فئات عمالية ضد العولمة والتجارة الحرة. ويمكن التدليل على هذا، كما يقترح بشارة، بخراب مناطق ما بعد صناعية في أميركا، وبأن مناطق صناعيّة كانت تعتبر معاقل تقليدية لحزب "العمال البريطاني" صوّتت ضدّ رأي هذا الحزب، ولصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. وثمة ولايات كانت محسوبة على الديمقراطيين في الولايات المتحدة صوتت لترامب، ما يعني أنّ الطبقة العاملة البيضاء أصبحت تميل للتصويت لليمين، وهي أكثر عرضةً لاتخاذ مواقف ضد الهجرة والمهاجرين.
وتحدّث عن دور وسائل التواصل الاجتماعي في التمكين للخطاب الديماغوجي الشعبوي، الذي يستغل الجهل والآراء المسبقة لعامة الناس، ويعبّر عما يرغب الناس سماعه، من دون أن يكون مروج هذا الخطاب مؤمنًا به بالضرورة.
وعلى الرغم من أن ترامب يؤمن بجزءٍ مما يقول دون شك، إلا أن كل ما يقوله على نحو ديماغوجي يعبّر عما يرغب قطاع واسع من الناس سماعه، ولا يستطيع قوله أو يخجل من قوله.
ورأى بشارة أن انتخاب دونالد ترامب، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يُظهران تحوّل طبيعة الطبقة العاملة في كل من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا؛ إذ أصبحت هذه الطبقة أكثر شعبوية، نتيجة لشعورها بتخلي النخب والأحزاب السياسية الرئيسية/التقليدية عنها اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا.
وفي الخلاصة، قال بشارة: "لقد انتخب ترامب قطاعٌ من المجتمع الأميركي لا يُشكّل غالبيّة الناخبين، وبالتأكيد لا يشكّل غالبيّة المجتمع الأميركي، وهذا يعني أنّ ثمة فئات أخرى واسعة سوف تدافع ليس فقط عن مصالحها؛ بل أيضًا عن نمط حياتها. وهي موجودة غالبًا في المدن الكبرى، ووزنها النوعي أكبر حتى من وزنها الديموغرافي. وأكاد أجزم أنّ مشكلة ترامب الرئيسيّة ستكون داخليّة في الصراع على هويّة الولايات المتحدة الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة، وليست مشكلة الشرق الأوسط، أو منطقة المحيط الهادئ، على أهميّة هذه المناطق".
وركزت الندوة، والتي استمرّت يومًا واحدًا، وشارك فيها نخبة من الباحثين والمختصين في الشأن الأميركي والسياسة الخارجية وفي مواضيع العلاقات الدولية في المنطقة، على محاولة استشراف السياسات المتوقعة لإدارة ترامب في ضوء فهم تفسيري عميق لعوامل فوزه في الانتخابات، وما تشير إليه من تحولات في المجتمع الأميركي، وبالنظر إلى تصريحاته خلال حملته الانتخابية والفترة التي تلت إعلان فوزه في الانتخابات.
وضم برنامج الندوة ثلاث جلسات، خصصت أولاها لتحليل فلسفة ورؤية ترامب والإدارة التي يعكف على تشكيلها، خصوصًا في ما يتعلق بالشرق الأوسط، وتناولت الجلسة الثانية محاولة فهم فوز ترامب بالرئاسة في سياق التحوّلات الداخلية للمجتمع الأميركي، أما الجلسة الأخيرة فتعمّقت في تحليل سياسات ترامب الخارجية المتوقعة تجاه دول وقضايا بعينها، كإيران والقضية الفلسطينية والعلاقات الأميركية المصرية.
ورأى مدير فرع "المركز العربي" في واشنطن، خليل جهشان، أن فوز ترامب يزيد من حيرة حلفاء واشنطن بشأن سياساتها تجاههم، وأصبح الأمر أكثر غموضًا وتعقيدًا، وهو ما يجعل العالم في حالة ترقب، وفي انتظار معرفة ما إذا كانت السياسات الأميركية ستتغير؛ أم أنها ستبقى على حالها. وأضاف جهشان أن ترامب نصّب نفسه منتقدًا شرسًا للسياسات الأميركية الفاشلة في العديد من الملفات، وفي مقدمتها تلك المتعلقة بالأوضاع في الشرق الأوسط، غير أن وجهة نظره في الشرق الأوسط محدودة، ومعرفته في المنطقة سطحية بشكل كبير ومشوّهة، فترامب لا يريد التعرّف بشكل أعمق على هذه المنطقة وشعبها وثقافتها وخصوصياتها، ولكن تعقيدات الأوضاع في المنطقة وأبعادها ستفرض عليه التعامل مع قضاياها بجدية وألا يتجاهلها.
من جانبه، ركز منسق وحدة تحليل السياسات في المركز العربي، مروان قبلان، على رسم الخطوط العامة لفلسفة إدارة ترامب وانعكاساتها الدولية، إذ تحدّث في ورقته عن أهم النقاط التي يمكن من خلالها فهم سياسات إدارة ترامب، وأولاها أن ترامب يمكن إدراجه ضمن المدرسة الجاكسونية في السياسات الخارجية، نسبة إلى الرئيس أندرو جاكسون (1829- 1837) الذي كان قوميًّا، شعبويًّا، انعزاليًّا ويكره العالم الخارجي، ومستعدًا لاستخدام القوة دفاعًا عن مصالحه. كما أن لديه نظرة "هوبزية" (نسبة إلى هوبز) للعالم، إذ يرى أن العالم مكان متوحش وأناني ويعجّ بالفوضى ويكره أميركا.
وسلّط قبلان الضوء على حضور الشعبوية في فلسفة ترامب وخطابه، وهو ما من شأنه أن ينعكس على إدارته، بحيث هدّد في العديد من تصريحاته، خلال الحملة الانتخابية، بأنه، في حالة فوزه بالرئاسة، فإنه سيعمل على انسحاب واشنطن من العديد من الاتفاقيات الدولية الموقّعة، خصوصًا في عهد الرئيس المنتهية ولايته، باراك أوباما، وتأتي في مقدمتها اتفاقية الشراكة عبر الهادئ واتفاق باريس للتغير المناخي. واختتم قبلان مداخلته بالتأكيد على أنه في حال التزام ترامب بوعوده الانتخابية؛ فإنه سيحدث ثورة في السياسة الخارجية الأميركية، مختلفة عن كل ما عرفه العالم حتى الآن.
وفي محاولة الإجابة عن سؤال: "كيف ستحكم عقيدة ترامب واشنطن؟"، رأى الباحث المتخصص في الشؤون الأميركية جو معكرون، أن سياسة ترامب تفهم من خلال طبائعه وشخصيته التي تتميز بعقيدة الفوز بأي ثمن، وبأنه يعيش حالة من العدائية بحيث يحب المواجهة، وهو أمر يبدو أنه يستمدّ منه قوته. وأوضح أن ما ميّز خطاب ترامب هي تلك النظرة القاتمة لأميركا، فخلافًا لتاريخ المرشحين الأميركيين، والذي كان دائمًا تفاؤليًا، أتى ترامب "على ظهر" نظرة قاتمة تشاؤمية سوداوية، مستفيدًا من حالة الغضب التي تسيطر على فئات عريضة من المجتمع الأميركي.
وفي محاولة توقّع تأثير البيروقراطية والمؤسسات في اندفاع ترامب، وإن كان سيخضع لها؛ قال معكرون إن أي رئيس يأتي إلى البيت الأبيض يأتي معه من يعتبرون "حراس الهيكل"، إلا أن الوضع ليس كذلك بالنسبة إلى ترامب؛ فمن صنع فوزه هو صهره جاريد كوشنر، الذي لن يتمكن الرئيس الجديد من منحه منصبًا في إدارته، لأنه سيواجه قانون مكافحة المحسوبية، مشيرًا إلى أن التحدي الكبير بالنسبة إلى ترامب سيكون الصراع داخل إدارته بين المستشارين، بحيث سيكوّن محور إدارة ترامب من سيخرج من بينهم منتصرًا في النهاية.
اقــرأ أيضاً
وفي الندوة التي نظمها "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، في الدوحة، اليوم السبت، حول تداعيات فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، قدّم بشارة تحليلًا ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا لظاهرة فوز ترامب، واضعًا إياها في سياق عام لصعود اليمين في أميركا والديمقراطيات الغربية.
كذلك سلّط الضوء على "الخلفية الثقافية" للتحوّل الحاصل في المجتمع الأميركي، والذي ساهم في إنتاج الفوز المفاجئ لدونالد ترامب. وأشار إلى أن هذا البعد الثقافي يجري تجاهله لدى من يحاولون تفسير ظاهرة صعود اليمين في الديمقراطيات الأميركية والأوروبية. وشرح كيف أن الخطاب الفظ والعنصري الذي استخدمه ترامب في حملته الانتخابية، بمستويات تضاهي "خطاب الحانات"، أكسبه تصويت "الرجال البيض الحانقين الغاضبين من تحولات العالم من حولهم" الذين يتملكهم شعور "بأنّ بلادهم تُصادرُ منهم حتى لم يعودوا يعرفونها".
وقد استفاد ترامب من استهدافه المهاجرين في تعزيز هذا الشعور، فمع أنّ الولايات المتحدة دولة بناها المهاجرون؛ إلا أنّ الذين توطنوا جيلًا بعد جيل منهم ينمّون شعورًا بأنّهم سكانٌ أصليون، وأن فقراء العالم يتدفقون إليهم ليشاركوهم ثروات توافرت بجهودهم وعرق آبائهم وأجدادهم.
ورأى بشارة أن المركّب "الثقافي السياسي الخطابي" الذي صعد بدونالد ترامب إلى الرئاسة ليس مقتصرًا على الولايات المتحدة، بل ينتشر لدى فئات واسعة في بلدان الاقتصاديات الغربيّة المتطورة جميعها. وإذا قام رجل طموح من داخل هذه الثقافة، وقرّر في ظروف مؤاتية تحويل "كلام الحانات" هذا إلى خطاب سياسيّ يخاطب فيه غرائز الناس ومخاوفهم، الدفينة منها والصريحة، وتبنّته قوى سياسية واجتماعية وازنة؛ تنشأ ظاهرةٌ مثل ظاهرة دونالد ترامب. وهي قائمةٌ وتتمدد حاليًّا في جميع الدول المتطورة في أوروبا وأميركا الشماليّة، وفي بعض دول أوروبا الشرقيّة، مثل هنغاريا وبولندا والتشيك.
وأضاف أن هذه الظواهر تلتقي مع نزعة أخرى قائمة في بلدان كثيرة في العالم، يعبِّر عنها ما يسمى عادةً "اليمين القومي"، الذي يتمحور خطابه حول فكرة السيادة والمجال الحيوي للدولة أيديولوجيّةً لنظام سلطوي. وتتجلى هذه النزعة، في أوضح صورة، في نموذج بوتين وتحولات النظام في روسيا إلى جمهورية قيصرية. وتنظر العقيدة السائدة في الصين وروسيا إلى انتشار الديمقراطية باعتباره تمدّدًا للثقافة الغربية، فهي أداة للهيمنة الغربية. وهذا يعني، وفق ما يرى بشارة، أن من يتبنّى نظرية صراع الحضارات حاليًّا، على المستوى الدولي، هما هاتان القوتان العظميان، وبشكل خاص روسيا. وربما لو كان صمويل هنتنغتون حيًّا؛ لصدم كيف أصبح صراع الحضارات مذهبًا روسيًّا وصينيًّا في العلاقات الدولية.
وعدّد بشارة خمسة عناصر تجمع بين الحركات اليمينية الجديدة في أوروبا والولايات المتحدة، أوّلها العداء للنخب والمؤسّسة (الاستبليشمنت)، والعداء للعولمة والتجارة الحرة، ومخاطبة خوف الناس من الهجرة الوافدة وموجات اللاجئين، ومخاطبة المشاعر القومية وخوف الناس من ضياع هوية بلدانهم عبر التعددية الثقافية، وتشترك هذه الحركات أخيرًا في العداء للإسلام والمسلمين، والربط بين الإسلام والإرهاب.
وأوضح أن الشعور المتنامي في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية بالقومية المنغلقة الإثنية، غير القائمة على المواطنة، يتركّز لدى كبار السن، ممن يقارنون الوضع الحالي بمراحل سابقة، كانوا فيها يتمتّعون بامتيازات و"يملكون البلاد"، ويتفاقم الشعور بأنها "كانت بلادهم" مع زيادة أعداد المهاجرين المسلمين في أوروبا، وزيادة المهاجرين من غير البيض البروتستانت في الولايات المتحدة الأميركية.
ولفت إلى دور العامل الاقتصادي في تفسير صعود اليمين في أميركا وأوروبا، من تبعات الأزمة المالية الاقتصاديّة عام 2008، وخراب الصناعة في بعض المناطق العماليّة التقليدية، نتيجةً لنقلها إلى دول أخرى بحثًا عن أيدٍ عاملة رخيصة، والتي أسهمت في إشعال غضب فئات عمالية ضد العولمة والتجارة الحرة. ويمكن التدليل على هذا، كما يقترح بشارة، بخراب مناطق ما بعد صناعية في أميركا، وبأن مناطق صناعيّة كانت تعتبر معاقل تقليدية لحزب "العمال البريطاني" صوّتت ضدّ رأي هذا الحزب، ولصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. وثمة ولايات كانت محسوبة على الديمقراطيين في الولايات المتحدة صوتت لترامب، ما يعني أنّ الطبقة العاملة البيضاء أصبحت تميل للتصويت لليمين، وهي أكثر عرضةً لاتخاذ مواقف ضد الهجرة والمهاجرين.
وتحدّث عن دور وسائل التواصل الاجتماعي في التمكين للخطاب الديماغوجي الشعبوي، الذي يستغل الجهل والآراء المسبقة لعامة الناس، ويعبّر عما يرغب الناس سماعه، من دون أن يكون مروج هذا الخطاب مؤمنًا به بالضرورة.
وعلى الرغم من أن ترامب يؤمن بجزءٍ مما يقول دون شك، إلا أن كل ما يقوله على نحو ديماغوجي يعبّر عما يرغب قطاع واسع من الناس سماعه، ولا يستطيع قوله أو يخجل من قوله.
ورأى بشارة أن انتخاب دونالد ترامب، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يُظهران تحوّل طبيعة الطبقة العاملة في كل من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا؛ إذ أصبحت هذه الطبقة أكثر شعبوية، نتيجة لشعورها بتخلي النخب والأحزاب السياسية الرئيسية/التقليدية عنها اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا.
وفي الخلاصة، قال بشارة: "لقد انتخب ترامب قطاعٌ من المجتمع الأميركي لا يُشكّل غالبيّة الناخبين، وبالتأكيد لا يشكّل غالبيّة المجتمع الأميركي، وهذا يعني أنّ ثمة فئات أخرى واسعة سوف تدافع ليس فقط عن مصالحها؛ بل أيضًا عن نمط حياتها. وهي موجودة غالبًا في المدن الكبرى، ووزنها النوعي أكبر حتى من وزنها الديموغرافي. وأكاد أجزم أنّ مشكلة ترامب الرئيسيّة ستكون داخليّة في الصراع على هويّة الولايات المتحدة الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة، وليست مشكلة الشرق الأوسط، أو منطقة المحيط الهادئ، على أهميّة هذه المناطق".
وركزت الندوة، والتي استمرّت يومًا واحدًا، وشارك فيها نخبة من الباحثين والمختصين في الشأن الأميركي والسياسة الخارجية وفي مواضيع العلاقات الدولية في المنطقة، على محاولة استشراف السياسات المتوقعة لإدارة ترامب في ضوء فهم تفسيري عميق لعوامل فوزه في الانتخابات، وما تشير إليه من تحولات في المجتمع الأميركي، وبالنظر إلى تصريحاته خلال حملته الانتخابية والفترة التي تلت إعلان فوزه في الانتخابات.
وضم برنامج الندوة ثلاث جلسات، خصصت أولاها لتحليل فلسفة ورؤية ترامب والإدارة التي يعكف على تشكيلها، خصوصًا في ما يتعلق بالشرق الأوسط، وتناولت الجلسة الثانية محاولة فهم فوز ترامب بالرئاسة في سياق التحوّلات الداخلية للمجتمع الأميركي، أما الجلسة الأخيرة فتعمّقت في تحليل سياسات ترامب الخارجية المتوقعة تجاه دول وقضايا بعينها، كإيران والقضية الفلسطينية والعلاقات الأميركية المصرية.
ورأى مدير فرع "المركز العربي" في واشنطن، خليل جهشان، أن فوز ترامب يزيد من حيرة حلفاء واشنطن بشأن سياساتها تجاههم، وأصبح الأمر أكثر غموضًا وتعقيدًا، وهو ما يجعل العالم في حالة ترقب، وفي انتظار معرفة ما إذا كانت السياسات الأميركية ستتغير؛ أم أنها ستبقى على حالها. وأضاف جهشان أن ترامب نصّب نفسه منتقدًا شرسًا للسياسات الأميركية الفاشلة في العديد من الملفات، وفي مقدمتها تلك المتعلقة بالأوضاع في الشرق الأوسط، غير أن وجهة نظره في الشرق الأوسط محدودة، ومعرفته في المنطقة سطحية بشكل كبير ومشوّهة، فترامب لا يريد التعرّف بشكل أعمق على هذه المنطقة وشعبها وثقافتها وخصوصياتها، ولكن تعقيدات الأوضاع في المنطقة وأبعادها ستفرض عليه التعامل مع قضاياها بجدية وألا يتجاهلها.
من جانبه، ركز منسق وحدة تحليل السياسات في المركز العربي، مروان قبلان، على رسم الخطوط العامة لفلسفة إدارة ترامب وانعكاساتها الدولية، إذ تحدّث في ورقته عن أهم النقاط التي يمكن من خلالها فهم سياسات إدارة ترامب، وأولاها أن ترامب يمكن إدراجه ضمن المدرسة الجاكسونية في السياسات الخارجية، نسبة إلى الرئيس أندرو جاكسون (1829- 1837) الذي كان قوميًّا، شعبويًّا، انعزاليًّا ويكره العالم الخارجي، ومستعدًا لاستخدام القوة دفاعًا عن مصالحه. كما أن لديه نظرة "هوبزية" (نسبة إلى هوبز) للعالم، إذ يرى أن العالم مكان متوحش وأناني ويعجّ بالفوضى ويكره أميركا.
وسلّط قبلان الضوء على حضور الشعبوية في فلسفة ترامب وخطابه، وهو ما من شأنه أن ينعكس على إدارته، بحيث هدّد في العديد من تصريحاته، خلال الحملة الانتخابية، بأنه، في حالة فوزه بالرئاسة، فإنه سيعمل على انسحاب واشنطن من العديد من الاتفاقيات الدولية الموقّعة، خصوصًا في عهد الرئيس المنتهية ولايته، باراك أوباما، وتأتي في مقدمتها اتفاقية الشراكة عبر الهادئ واتفاق باريس للتغير المناخي. واختتم قبلان مداخلته بالتأكيد على أنه في حال التزام ترامب بوعوده الانتخابية؛ فإنه سيحدث ثورة في السياسة الخارجية الأميركية، مختلفة عن كل ما عرفه العالم حتى الآن.
وفي محاولة الإجابة عن سؤال: "كيف ستحكم عقيدة ترامب واشنطن؟"، رأى الباحث المتخصص في الشؤون الأميركية جو معكرون، أن سياسة ترامب تفهم من خلال طبائعه وشخصيته التي تتميز بعقيدة الفوز بأي ثمن، وبأنه يعيش حالة من العدائية بحيث يحب المواجهة، وهو أمر يبدو أنه يستمدّ منه قوته. وأوضح أن ما ميّز خطاب ترامب هي تلك النظرة القاتمة لأميركا، فخلافًا لتاريخ المرشحين الأميركيين، والذي كان دائمًا تفاؤليًا، أتى ترامب "على ظهر" نظرة قاتمة تشاؤمية سوداوية، مستفيدًا من حالة الغضب التي تسيطر على فئات عريضة من المجتمع الأميركي.
وفي محاولة توقّع تأثير البيروقراطية والمؤسسات في اندفاع ترامب، وإن كان سيخضع لها؛ قال معكرون إن أي رئيس يأتي إلى البيت الأبيض يأتي معه من يعتبرون "حراس الهيكل"، إلا أن الوضع ليس كذلك بالنسبة إلى ترامب؛ فمن صنع فوزه هو صهره جاريد كوشنر، الذي لن يتمكن الرئيس الجديد من منحه منصبًا في إدارته، لأنه سيواجه قانون مكافحة المحسوبية، مشيرًا إلى أن التحدي الكبير بالنسبة إلى ترامب سيكون الصراع داخل إدارته بين المستشارين، بحيث سيكوّن محور إدارة ترامب من سيخرج من بينهم منتصرًا في النهاية.