إذا كان للعام 2014 أن يدخل تاريخ المملكة المتحدة المعاصر، فلن يكون ذلك إلا من بوابة عنوان عريض، يؤرّخ لنجاة الاتحاد البريطاني من التفكّك، بعد أن قرر سكان اسكتلندا البقاء ضمن الاتحاد، رافضين، في استفتاء تاريخي، دعوات الوطنيين الإسكتلنديين إلى الانفصال وتأسيس دولة مستقلة.
يشكّل الاستفتاء التاريخي الذي أجري في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، وشارك فيه أكثر من 4 ملايين إسكتلندي، الحدث السياسي الأبرز الذي شهدته بريطانيا في العام 2014. ولم يكن حدثاً عادياً أو عابراً، بل مصيرياً وكاد أن يعصف بثلاثة قرون من عمر الاتحاد البريطاني، الذي يضم إنكلترا إلى جانب اسكتلندا وشمالي إيرلندا وإقليم ويلز الإنكليزي. ولو قُدّر لنتائج الاستفتاء أن تأتي على خلاف ما حصل، لكانت بريطانيا العظمى خسرت الكثير من قوّتها ومكانتها على مختلف المستويات الأوروبيّة والدوليّة.
ولو اختار الإسكتلنديون في الاستفتاء أن يمضوا في طريق الاستقلال، لكانت المملكة المتحدة فقدت ثلث مساحتها الجغرافيّة وأكثر من خمسة ملايين نسمة من سكّانها، وخسرت الكثير من نفوذها وثقلها على المسرح الدولي. ولربّما فقدت مقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي، بعد أن تنكمش إلى دولة بمساحة تونس جغرافياً، ووزن الدنمارك أو السويد سياسيّاً.
لكن، وقد سارت رياح الاستفتاء على عكس ما يشتهي الانفصاليون من أنصار الحزب القومي الإسكتلندي، وجاءت متوافقة مع أشرعة سفن الأحزاب الكبرى في لندن، فقد احتفظت بريطانيا بكل ما لها من مكانة ونفوذ على المستويين الأوروبي والدولي. وقد تكون نتائج الاستفتاء الإسكتلندي ساهمت في تعزيز قوّة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، الذي ما أن انتهى من معركة إسكتلندا حتى فتح جبهة مواجهة جديدة مع حلفائه في الاتحاد الأوروبي، مطالباً بمراجعة أنظمة العمل في الاتحاد، خصوصاً ما يتعلّق بالهجرة وحركة المهاجرين، أو منح الجمهور البريطاني فرصة للاستفتاء على البقاء في الاتحاد أو الانسحاب منه، إذا ما رفض الأخير مراجعة أنظمة عمله.
وتشكّل المواجهة، التي فتحها كاميرون مع الاتحاد الأوروبي، بضغط من قوى سياسيّة محليّة، حدثاً هاماً ميّز العام 2014 في بريطانيا، إذ تنقسم الساحة السياسيّة بشأن عضويّة البلاد في الاتحاد الأوروبي. يصرّ حزبا العمال والليبراليين الديموقراطيين، على استمرار العضوية في الاتّحاد الأوروبي، بينما يطالب حزب الاستقلال اليميني بالخروج من الاتحاد. من جهته، يسعى حزب المحافظين إلى أن يبدو متوازناً، ويعرض إعادة التفاوض على شروط عضوية بريطانيا في الاتحاد، ومن بينها حريّة حركة مواطني الاتحاد للحدّ من الهجرة، إلى جانب إقامة استفتاء على عضوية بريطانيا في العام 2017.
ويساهم ملف العلاقات البريطانية مع الاتحاد الأوروبي، وهو عامل مؤثّر في المشهد السياسي البريطاني، في تعزيز قوة حزب "الاستقلال"، مقابل تراجع شعبيّة الأحزاب التقليديّة الثلاثة (المحافظون والعمال والأحرار الديمقراطي). ونجح حزب الاستقلال اليميني، بقيادة نيجيل فاراج، في استغلال حالة السخط العام بين الانجليز بسبب تدفّق المهاجرين إلى البلاد من دول الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً دول أوروبا الشرقية، في جذب مؤيدين له، وتحديداً من اليمينيين والأحزاب الرافضة لاستمرار بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. واحتل الحزب السياسي، الذي تم تشكيله عام 1993، المركز الأول في انتخابات البرلمان الأوروبي، خلال التصويت الذي جرى في شهر مايو/ أيار الماضي، متفوقاً على حزبي العمال والمحافظين.
ومع انتهاء العام 2014، فالأكيد أن ما شهده من أحداث وتطورات على المستوى السياسي البريطاني، لن تنتهي، بل ستستمرّ تداعياتها إلى العام 2015، الذي سيشهد انتخابات عامة من المرجّح أن تكون غير مسبوقة، خصوصاً مع بروز لاعبين سياسيين جدد مثل حزب "الاستقلال"، في مقابل تراجع الأحزاب التقليديّة. ولن يكون بمقدور أي من الأحزاب التقليديّة هذه، تشكيل حكومة إلا بالائتلاف مع شركاء آخرين، ربّما يكون حزب الاستقلال اليميني والمناهض للاتحاد الأوروبي أحدهم، خصوصاً بعد أن صار للحزب، ولأول مرة في تاريخه، عضوان في مجلس العموم، بعد انشقاق عضوين من حزب المحافظين، هما مارك ريكليس ودوغلاس كارسويل، وانضمامهما إليه، وفوزهما بالانتخابات التكميليّة التي جرت بعد ذلك في دوائرهما.