يوم 16 يونيو/حزيران الماضي، بعد ظهر يوم دافئ ومشمس، تقدم توماس ماير نحو النائبة في مجلس العموم البريطاني، جو كوكس، أطلق النار عليها، ثم جرّها على الأرض وطعنها مراراً وتكراراً بخنجره. ومنذ ذلك اليوم الذي صرخ فيه ماير "بريطانيا أولاً"، صمت الرجل عن الكلام. وعندما حكم القاضي عليه بالسجن مدى الحياة، لم يقل القاتل شيئاً عن دوافع الجريمة. لم يبد أسفاً على قتل جو كوكس، حتى إنه لم يشأ الدفاع عن نفسه. كذلك، لم تبد عليه أي علامات ندم أو توتر وهو يواجه هيئة المحلفين.
في الحقيقة، كان ماير عنصرياً صامتاً، وإرهابياً "نائماً" لسنوات. وكشفت الأدلة التي عثرت عليها الشرطة في منزله، عن مدى جذور الكراهية التي دفعته لقتل النائبة كوكس. وخلال العد التنازلي لاستفتاء "بريكسيت" حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، في يونيو الماضي، اعتبر ماير وأقرانه أن بقاء بريطانيا في الاتحاد سيفتح الأبواب أمام "أسراب" من المهاجرين. وقد تغذت مشاعر الكراهية هذه، قبل وقوع جريمة القتل، من ملصق دعائي نشره حزب "الاستقلال" اليميني، تظهر فيه طوابير المهاجرين واللاجئين الفارين إلى البر الأوروبي، تحت عبارة "نقطة الانهيار".
وأظهر البحث في أرشيف ماير أنه أقدم على قتل النائبة كوكس عشية "بريكسيت"، لأنه تَشَّرب أفكار اليمين المتطرف، وقرأ العشرات من الكتب والمنشورات اليمينية. وزيّن غرفته بشعارات وتحف تُمجد النازية، وتشيد بتفوق "الجنس الأبيض". وقبل تنفيذ جريمته ضد واحدة من "المتعاونين"، اشترى ماير مجموعة من المطبوعات التي يوزعها تنظيم النازيين الجدد في الولايات المتحدة، بما في ذلك كتيبات حول تصنيع القنابل وتجميع مسدسات محلية الصنع، وستة أعداد من مجلة "حرية الكلام" التي تصدر عن "التحالف الوطني" في أميركا، ونسخة من منشور "أنا أقاتل" الذي كان يُوزع على أعضاء الحزب النازي الألماني عام 1943.
كما ضمت مكتبة ماير المنزلية كتباً ومطبوعات عن النازيين، والتاريخ العسكري الألماني والتفوق الأبيض. واحتفظ بها في غرفة نومه على رف يعلوه نسر الرايخ الثالث، ذهبي اللون، مع صليب معقوف. كما كان ماير مُشتركاً في مجلة يمينية تدعى "وطنيو جنوب إفريقيا"، صدرت في البداية عن نادي "سبرينغبوك" في جنوب أفريقيا، ثم انتقلت إلى المملكة المتحدة عام 1991. في تلك السنة، كتب ماير رسالة إلى المجلة قال فيها: "على الرغم من كل شيء، لا يزال لدي ثقة أن العرق الأبيض سوف يسود، في بريطانيا وجنوب أفريقيا... وأخشى أن يكون ذلك عبر صراع طويل جداً ودموي جداً".
وربما هذا ما دفع رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، للعودة إلى الساحة السياسية البريطانية، لاستنهاض "تيار الوسط، وإعادته إلى مركز الساحة السياسية، لتحدي تيار "بريكسيت" اليميني"، كما قال. ويرى بلير وغيره من السياسيين والمفكرين الغربيين أن التيارات الشعبوية التي حققت فوزاً في الانتخابات الأميركية، وقبل ذلك في استفتاء "بريكسيت"، تقدمت المشهد السياسي بعد تراجع تيار "الأغلبية الصامتة" عن مركز الوسط، وغياب البرامج السياسية التي تقدم أجوبة للأزمات الطارئة في سائر الديمقراطيات الغربية. بلير، العمالي، ومعه رئيس الوزراء الأسبق، المحافظ، جون ميجر، عادا مرة أخرى إلى واجهة السياسة البريطانية، وقد استشعرا خطر "اليمين البديل" العنصري الذي رمى بريطانيا في نفق "بريكسيت"، تحت شعار "بريطانيا أولاً"، وهو ذات الشعار الذي صرخ به ماير، وهو يطلق رصاصاته نحو صدر النائبة كوكس، ويغرس خنجره في جسدها صارخاً "الموت للخونة"، وكأنه بذلك يوجه طعناته لقيم الديمقراطية، كما قال زعيم حزب العمال، اليساري، جيرمي كوربين.