لا يبدو أن الآتي من الأيام سيكون سهلاً على رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، مثلما كانت الأيام المائة الأولى منذ تولت مقاليد الحكم بعد استقالة ديفيد كاميرون. بل لا يستبعد مراقبون أن تكون نهاية ماي قريبة، وبفعل "بريكسيت"، تماماً كما كانت نهاية سلفها كاميرون بعد ساعات قليلة من تصويت 52 بالمائة من البريطانيين لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي في استفتاء يونيو/ حزيران الماضي. ومنذ وقفت ماي، في الحادي عشر من يوليو/ تموز الماضي، لتعلن على الملأ جملتها الشهيرة "بريكسيت يعني بريكسيت"، وتتعهد باحترام "الإرادة الشعبية"، والمضي نحو "أفضل خروج" من الاتحاد الأوروبي، وهي كمن يسير في حقل ألغام، تتفجر داخلياً وخارجياً. هكذا بدت وكأنها تتخبط في طريق "البريكسيت" بلا خطة ولا استراتيجية، ما يرفع منسوب عدم الثقة في تعهداتها، ويزيد قلق الأوساط الاقتصادية والسياسية تجاه مصير المملكة المتحدة.
لم يبالغ القادة الأوروبيون عندما توعّدوا لندن بمفاوضات قاسية وصعبة، لتكون بريطانيا عبرة لكل دولة تفكر بالخروج من الاتحاد. لكن ما لم تتخيله ماي هو أن يصل رد الفعل الأوروبي إلى حد الإهانة التي تعرضت لها خلال زيارتها الأسبوع الماضي إلى مقر الاتحاد في العاصمة البلجيكية، بروكسل. فقد تعمّد القادة الأوروبيون تجاهل ماي في حفل عشاء المجلس الأوروبي، كما تعمدوا تأخير كلمتها إلى ما بعد منتصف الليل، ناهيك عن أن أياً من المسؤولين الأوروبيين لم يعلق على ما قالته، في إشارة لعدم الاهتمام. وبحسب صحيفة "إندبندنت" البريطانية، فإن ماي التي حاولت فتح مفاوضات أولية مع قادة أوروبا قبل تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة، فوجئت بصلف أوروبي، لم يتحمل سماعها لأكثر من 5 دقائق، بعد منتصف ليل الجمعة الماضي. وفيما انشغل موظفو الخدمة في حفل العشاء الأوروبي برفع الأطباق، التزم قادة أوروبا عدم التعليق على خطاب ماي، بناءً على توصية من رئيس المجلس الأوروبي، دونالد تاسك.
وعلى الرغم من تقليل ماي من أهمية التهديدات التي لوحت بها بعض دول الاتحاد، بشأن مسار المفاوضات وجوهرها، إلا أن البحث في صميم القضايا الأساسية التي ستدور حولها المفاوضات، يعكس مدى الخلاف بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي. وهو ما يعكس حجم العقبات الذي ينبغي على هذه المفاوضات تجاوزها وصولاً إلى "طلاق ودي" يحافظ على علاقة صداقة وتعاون بين الطرفين. وتعد مسألة التحكم في الحدود إحدى قضيتين هامتين ستكونان محور مفاوضات "بريكسيت" بين لندن وبروكسل، إلى جانب كيفية تنظيم التجارة عقب الخروج رسمياً. من جانبها، تقول الحكومة البريطانية إن أولويتها في المفاوضات هي التحكم في الهجرة وتنظيم حركة الأفراد من دول الاتحاد الأوروبي إلى أراضيها.
وتعد مسألة حرية التنقل بين دول الاتحاد أحد أهم أسباب تصويت البريطانيين لصالح "بريكسيت"، لا سيما مع تفاقم أزمة المهاجرين إلى أوروبا منذ العام الماضي. بالتوازي مع ذلك، تُصر لندن على التمتع بامتيازات التجارة الحرة مع دول الاتحاد. وفي مقابل الموقف البريطاني، تعتبر المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي، إضافة إلى الدول الـ27 الأعضاء، أن أي دخول بريطاني للسوق الأوروبية الموحدة لن يكون متاحاً إلا إذا قبلت لندن باستمرار حرية حركة المواطنين الأوروبيين عبر الحدود. وقد عبّر رئيس المفوضية، جان كلود يونكر، عن ذلك صراحة بالقول: "لا يمكن قبول بريطانيا في السوق المشتركة بدون أن توافق على حرية تنقل العمال في الاتحاد الأوروبي".
ولم تكد رئيسة الوزراء البريطانية "تستوعب صدمة" الإهانة الأوروبية، حتى وجدت نفسها بمواجهة ساخنة مع رؤساء حكومات أقاليم المملكة المتحدة، ويلز، واسكتلندا، وشمال إيرلندا. وبعدما وصفت رئيسة حكومة اسكتلندا، نيكولا ستورجن، الاجتماع مع ماي بـ"المحبط"، حذرت من أنها "لن تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى بلادها تُدفع إلى هاوية خروج تام من الاتحاد الأوروبي". وجددت زعيمة الحزب القومي الاسكتلندي تهديداتها السابقة بإجراء استفتاء ثان على استقلال اسكتلندا، إذا مُنعت من الدخول إلى السوق الأوروبية المشتركة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد. وبالتوافق مع رأي ستورجن، أكد رئيس وزراء إقليم ويلز، كاروين جونز، على ضرورة استمرار عضوية بريطانيا في السوق الأوروبية المشتركة. وتعارض حكومتا اسكتلندا وشمال إيرلندا "الخروج التام" أو "القاسي" من أوروبا، وتطالبان بـ"خروج مرن" يُتيح للمملكة المتحدة البقاء في السوق الموحدة.
ويبدو أن موقف إقليمَي اسكتلندا وشمال إيرلندا يصطدم بموقف "صقور بريكسيت" في حكومة ماي، وبالإصرار الأوروبي على أنه "لا يمكن أن يتحقق لبريطانيا الوصول الكامل إلى السوق الموحدة، دون الالتزام بحريات التنقل الأربع: الأفراد، والخدمات، والسلع، ورؤوس الأموال".
وبعد اجتماع عقد قبل أيام في مقر الحكومة البريطانية في لندن، اقترحت ماي تشكيل لجنة جديدة برئاسة وزير شؤون الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ديفيد ديفيس، وممثلين عن أقاليم ويلز، واسكتلندا، وشمال إيرلندا، لمنح الحكومات الثلاث التي تتمتع بدرجات مختلفة من الحكم الذاتي، قناة رسمية للتعبير عن آرائها بشأن شكل علاقة بريطانيا المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي. وهو ما يعني أن على ماي خوض مفاوضات داخلية شاقة، قبل التوجه إلى مفاوضات معقدة وصعبة، ومن المرجح أن تكون طويلة، مع الاتحاد الأوروبي.