فريدريك نيتشه، إدموند هوسرل، مارتن هايدغر، جيل دولوز، أفلاطون، أرسطو، بول فاليري، سيغموند فرويد؛ كيف لهؤلاء المفكّرين الذين باتوا يبتعدون بعقود وقرون عنا أن يفكرّوا معنا في قضايا مثل التكنولوجيا الرقمية، وبنية المؤسسات الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين والتلوّث البيئي والذكاء الاصطناعي؟ بفضل أبحاث المفكّر الفرنسي برنار ستيغلر (1952 - 2020) أصبح ذلك ممكناً.
رحَل صاحب كتاب "المجتمع الأوتوماتيكي" عن عالمنا منتصف الأسبوع الماضي، ومثّل ذلك مفاجأة حزينة للساحة الفكرية الفرنسية، خصوصاً أن ستيغلر كان أحد أنشط المفكّرين بتقديم المحاضرات واندماجه مع مبادرات الباحثين الشباب، والمشاركة في مشاريع كثيرة لا تكتفي بالأطر الفكرية والأكاديمية، بل تتقاطع مع حقول السياسة والاقتصاد وقضايا المجتمعات الحديثة والمستقبليات.
قام مشروع ستيغلر على أطروحة مفادها أن الفكر - على عكس ما يفترض الفلاسفة بأنه أعلى منجزات البشرية - متأخّر جداً عن التقنية، وأن عدم إحاطة الفكر بالتقنية من أسباب التأزم الذي يعيشه العالم الحديث، خصوصاً أن التقدّم في التاريخ كان دائماً يعمّق تلك الفجوة. ومن هنا يأتي مفهومه الذي حمل عنوان أحد أبرز كتبه؛ "البؤس الرمزي" (2004)، وبه يعني وضعية تكون فيها الموارد المعرفية غير قادرة على تلبية حاجيات المجتمعات في إنتاج المعنى قياساً على فكرة البؤس الاقتصادي.
قام مشروعه على أطروحة مفادها أن الفكر متأخّر جداً عن التقنية
أصّل ستيغلر هذا الطرح عبر استعارة رؤية هايدغر، فإذا كان الفيلسوف الألماني قد انتبه لنسيان الفلسفة لفكرة الوجود، فإن المفكر الفرنسي قال بأن الفلسفة - ومن ورائها الفكر بشكل عام - قد أقصت التقنية من مجال نظرها المباشر، فجعلت كلّ ما هو تقنيّ ملموس مجرّد فرع لما هو تصوّرٌ ذهنيّ، وهذ الإقصاء قد انجرّ عنه شعور بأن التقنية غير بشرية، حتى أن التقنيات التي لا يمكن فصلها عن الإنسان الذي لم يعد ينظر إليها كتقنية، ومثال ذلك الأبرز هو الكتابة.
هكذا دعا ستيغلر منذ إصداره الأول "التقنية والزمان" (لا تخفى هنا محاكاة عنوان كتاب هايدغر الأشهر "الكينونة والزمان") إلى مقاربة التقنية باعتبارها جزءاً من البشري، وأن أداة فهمها هي نفسها أدوات الأنثروبولوجيا (علم الإنسان).
هذه الرؤية المختلفة راديكالياً عن الأطروحات السائدة في عالم الفكر المعاصر قد تفسّرها المسالك الغريبة الذي اتخذتها مسيرة ستيغلر العلمية، فالمفكّر الذي يرأس "معهد الأبحاث والابتكار" منذ 2005، وشغل مناصب أكاديمية في عدّة جامعات ومؤسسات بحثية، بدأ من نقطة غير متوقّعة؛ حيث بدأ دراسة الفلسفة في السجن حين كان يقضّي عقوبة بخمس سنوات (1978 - 1983) بعد القبض عليه في عملية سطو على بنك.
في 1993، وتحت إشراف جاك دريدا حصل ستيغلر على الدكتوراه وسرعان ما سيأخذ موقعاً أساسياً في خارطة الفكر الفرنسي مع نشره، بدءاً من 1994 كتابه المووعي "التقنية والزمان" في ثلاثة أجزاء أتمّ إصدارها في 2001. مسار عجيب قد لا يعبّر عنه سوى عنوان كتابه الحواري مع إيلي دورينغ؛ "أن نتفلسف بالصدفة".