في الوقت الذي بدأت فيه أميركا تستوعب فوز دونالد ترامب بالرئاسة، وتتكيف في التعامل مع فوزه كأمر واقع، صدرت اليوم من مقر إقامة الرئيس المنتخب، في نيويورك، حيث يعكف هو وفريقه على طبخ تركيبة إدارته، الدفعة الأولى من التعيينات فيها.
وعلى الرغم من صغر حجم دفعة التعيينات الأولى التي شملت وزيرين اثنين من أصل خمسة عشر وزيرا وسبعة آخرين برتبة وزير، بحسب المناصب في الإدارة الحالية، فضلاً عن أكثر من 4 آلاف موظف فيدرالي من الرتبة الثانية والثالثة في سائر الوكالات والوزارات، لكن هذه الدفعة من التعيينات حملت مؤشرات أولية عن هوية الإدارة الجديدة وتوجهاتها وبوصلتها السياسية، المحلية والخارجية.
ومع أن ترامب حرص في هذه الدفعة على الظهور كمعتدل يعتزم تشكيل إدارة متوازنة ترضي الرافضين والتقليديين في صفوف الجمهوريين والمحافظين عموماً، وملء المنصبين بالمسؤولين اللذين وقع عليهما الاختيار، انطوى على ما يشي بأنه يسعى للتوازن الشكلي، لإخفاء حقيقة عدم وجود نية لديه عن التزحزح عن جوهر نهجه الرافض للآخر، والذي أوصله إلى البيت الأبيض.
الفارق المستجد الآن أن خطاب ترامب الفاقع خلال الحملة الانتخابية، ما عاد ليستقيم مع المقام الرئاسي، وبالتالي لا بدّ من التمويه.
في هذا الإطار، جاء تعيين، رينس بريباس، في منصب كبير مسؤولي البيت الأبيض، وستيف بانون، في موقع المخطط الاستراتيجي للرئيس، ليرسم صورة مصغرة عن المشهد المتبلور لإدارة ترامب المقبلة.
وكان بريباس في موقع يوازي أمين عام الحزب الجمهوري في السنوات الأربع الماضية، وهو شخصية وسطية تنتمي إلى نخبة الحزب التقليدية. حاول الإمساك بالعصا من النصف ونجح إلى حد بعيد، خلال الحملة الانتخابية، إذ إنه لم يقطع الخيط مع ترامب آنذاك، على الرغم من اشتباك الأخير مع قيادات الجمهوريين، الذين يفترض أن ينحاز بريباس لجانبهم. لكنه احتفظ بعلاقة صعبة مع ترامب، وبذلك قام بدور الجسر بين المرشح المتمرد وبين الحزب، وخصوصاً بين الجمهوريين في الكونغرس، الذين تنكر قسم وازن منهم لترامب، من جهة، وبين ترامب، من جهة ثانية.
يعمل بريباس بسياسة التسويات، فهو حفظ خط الرجعة، في حال فوز ترامب بالرئاسة. وعندما صحّ رهانه، جاءته المكافأة، إذ عُين كبير المسؤولين في البيت الأبيض. وهذا الموقع بمثابة المدخل الأول والوحيد للرئيس، ذلك أن كل مشروع وقرار وجدول أعمال وموعد مع الرئيس، يمر عبر مكتبه، فهو المفتاح الإجباري للوصول إلى المكتب البيضاوي، وبذلك فموقعه حساس ومحوري، لكنه بيروقراطي أكثر مما هو سياسي.
أما بانون، الذي التحق بحملة ترامب كمدير عام لها، في أغسطس/آب الماضي، وكان وراء تحولات عدة فيها، أسندت إليه وظيفة مركزية تتصل بصلب السياسات. فإذا كان بريباس منسق هذه الأخيرة فإن بانون هو عقلها، الأول يركز على التسويات، فيما الثاني صدامي، بل عنصري مكشوف منذ زمن ومحسوب على صفّ التيار الشوفيني للقوميين البيض في أميركا. وهو يكره الغير ومنه اليهود، ذلك أنه يميني متعصب ولا يتفق حتى مع بريباس، بل ويرفض اعتداله، ولذلك أثار تسليمه هذا الدور ما يكفي من القلق، كما جاء بمثابة إنذار مبكر.
وما يزيد من خطر بانون في هذا الموقع الرئيسي، أن تعيينه يأتي في لحظة انتعشت فيها القوى العنصرية التي شحنها خطاب ترامب الانتخابي بجرعات مكثفة من التحريض والكراهية، وقد بدأت تعبيرات هذا الشحن تظهر على الأرض بصورة تحمل على الخشية، ولو أنها غير منظمة.
فقبل أيام قامت عناصر من المتعصبين البيض بحرق كنيسة للسود في ولاية ألاباما الجنوبية، وظهرت أمس كتابات على جدارن كنيسة للسود أيضاً في ضواحي واشنطن، تقول إن "أميركا ترامب هي للبيض فقط".
صحيح أنها حوادث متفرقة وربما تكون عابرة، لكنها تؤشر إلى تجرؤ النزوع العنصري، في ظل الأجواء الراهنة، على التكشير عن أنيابه، ومجيء بانون إلى البيت الأبيض، قد يشجع هذا الانفلات على التمادي في سلوكه المقيت، وبما يفاقم من التهاب الجرح العنصري الذي ساهم ترامب في فتحه.
ويضاعف المخاوف أن صقور المحافظين تعنّف هجمتها على جبهة السياسة الخارجية والأمن القومي، لتغليب كفة التشدد في مجالها، كما لضمان حصتها في حقائب هذا المجال، خصوصاً أن هناك، كما تردد، تجاذبات محتدمة بين أجنحة بطانته للتحكم ببوصلة الإدارة وتحديد توجهاتها وأولوياتها الدولية. ومن المؤشرات على ذلك، تكليف ترامب لثلاثة من أولاده وصهره، ليكونوا من ضمن الفريق المكلف باختيار أركان. خطوة أثارت الكثير من الاعتراضات وعدم الارتياح في واشنطن.
ومن الأسماء الجديدة المتداولة لملء المناصب في هذا الحقل، جيمس وولسي، مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي أي أيه) سابقاً ومستشار السياسة الخارجية لترامب أثناء الحملة الانتخابية، وقد عاد اليوم إلى الاتفاق النووي الإيراني وضرورة التشدد مع طهران.
أما نيوت غينغريتش المطروح اسمه لمنصب كبير في هذا المجال، عاد اليوم أيضاً إلى التأكيد على "وجوب ترك ترامب ليكون ترامب"، وهو يعني تركه ليبقى على خطه "المتشدد".
ولا يقل عنهما تشدداً رودي جولياني المرشح لوزارة العدل التي ترعى الشأن الأمني الداخلي وهو الذي يرى أن المجابهة مع الخارج قد تكون أحد المخارج لمشاكل أميركا.
ويندرج في هذه الخانة الجنرال المتقاعد مايكل فلين المرشح لمركز مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، والمعروف عنه اعتراضه على السياسة الخارجية للحزبين، وأيضاً على حرب العراق.
تنضح واشنطن بالإشاعات والتسريبات حول تركيب إدارة ترامب، منها بالونات اختبار ومنها مقدمات لقرارات تعيين قادمة، ويبقى الأمر كذلك لغاية موعد التدشين في يناير/كانون الثاني المقبل، إذ جاءت تعيينات اليوم لترسم الملامح الأولية التي جرى التعامل معها بكثير من الحذر والتحفظ.