في الصحارى المصريَّة لا يمكن رؤية شيء مميّز في الأفق غير الغبار والحجارة. إذا كنت تقف في الصحراء الغربيَّة في مصر مثلاً، من الصعب أن تتخيل أو تعتقد بأن هذا المكان كان ضاجًا ومليئًا بالحياة في يوم من الأيام. ولكن، فوق بحيرة قارون التي تقع على بعد حوالي 80 كم جنوب غرب القاهرة، ثمة تكوينات جيولوجيَّة وطبقات منذ ملايين السنين، سيعطينا البحث والتنقيب فيها معلومات حول الزمن، وكأنه سفرٌ عبر التاريخ.
نوع آخر من الحياة
في هذه المنطقة ثمَّة بقايا لا تحصى من الأشجار التي تحجّرت وصارت جزءًا من الرمال، يبلغ طول بعضها حوالي 40 مترًا. ويبلغ عمر الحفريات القريبة من البحيرة نحو 30 مليون سنة، وتكشف تاريخاً كانت فيه البحيرة محاطة بغابة مطيرة دافئة، مع وجود كميات كبيرة من الرطوبة. وتشير الحفريات إلى أن حيوانات شبيهة بوحيد القرن كانت سائدة ومسيطرة على هذه المنطقة. وكانت القرود والطيور تعيش على أغصان الأشجار العملاقة، وكانت السلاحف تسبح في أحواض المياه، إذ كانت تشكّل فرائس للتماسيح. كانت هذه المنطقة المصريَّة فعلاً تضج بنوعٍ آخر من الحياة.
ألف سلالة حيّة
وأشار هشام سلام، وهو أحد أهم علماء الحفريات في المنطقة العربية، من جامعة المنصورة، إلى أنَّه "كانت تعيش في هذه المنطقة أكثر من ألف سلالة حيّة". ليس هذا فحسب، بل أشار سلام إلى أنه قبل عدة ملايين من السنين، حينما كانت المنطقة حول بحيرة قارون عبارة عن غابة مطيرة كثيفة ثمة دلائل دامغة على وجود الحيتان آنذاك أيضاً في صحراء اليوم! ومن بين جميع عمالقة الغابات المطيرة، فإنَّ ما تم تأكيد وجوده بشكل مطلق هو الحيوانات الشبيهة بوحيد القرن والتي تسمى في علوم الأحياء بـArsinoitherium وأسلاف الفيلة التي تسمّى بـMoeritherium، والقرود والتماسيح والحيتان. كل ذلك تم كشفه عن طريق العظام الأحفورية التي كانت مخبأة في البداية، وتكلست وترسبت في حزم متراكمة على مدى ملايين السنين، ثم كشفت عنها لأوّل مرة قوّة الرياح وتغيّر الطقس.
متحف في الصحراء
وقام هشام سلام وزملاؤه في الجامعة بتحويل المنطقة الصحراوية إلى متحفٍ ضخم في الهواء الطلق، يضم أجمل الحفريات التي تم اكتشافها وأكثرها وضوحًا. بعض الحفريات معروضة، وبعضها ببساطة موجودة على الأرض مباشرة. ويجب على أيّ زائر للمتحف أن يقوم بالسفر في سيّارة ذات دفع رباعي من أجل تجنّب الطرق الوعرة، وللمرور فوق منحدراتٍ قاسية، للوصول إلى المكان المقصود. وأشار هشام سلام إلى أنّ تحويل الفترة الفرعونية إلى سوقٍ سياحي هو أمر أثّر كثيرًا على الاهتمام بالكنوز العلمية الموجودة في مصر، وهناك ملايين السنوات قبل الفترة المصرية. أخيرًا، قام سلام بالبحث عن دلائل تشير إلى وجود الديناصورات في مصر! وهذه محاولةٌ فريدةٌ من نوعها، إذْ يبحث الفريق حاليًا عن حفرياتٍ جديدة على بعد بضعة كيلومترات في الشمال الغربي للصحراء. ولا يفضّل فريق البحث الحديث عن موقع العمل في الصحافة والإعلام، خوفًا من خطر التلف أو سرقة الاكتشافات القيمة. تمكين الذات
وتاريخ تنقيب سلام في هذه المنطقة قديم جدًا، إذ بدأ العمل فيها قبل حوالي 15 عامًا، إلا أنَّه أصيب بخيبة أمل كبيرةً آنذاك. ليس هذا فحسب، بل إن هذه المنطقة كانت محط اهتمام عالمي من قبل الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين والألمان قبل حوالي 100 عام، وكان العلماء المصريون مبعدين تماماً عن العمل فيها. عندما أحسّ سلام بخيبة أمل، تخلّى عن خطته من أجل اكتشاف الكنوز الأحفورية في بلده الأم، مصر. تقدّم سلام من أجل الحصول على منحة لدراسة الدكتوراه في جامعة أكسفورد في بريطانيا. وبعد الانتهاء من دراسة الدكتوراه، وزيارة الولايات المتحدة الأميركيَّة، وخصوصاً جامعات ستوني بورك وأوهايو ومتحف "دنفر" للطبيعة وجامعة ديوك، عاد سلام إلى وطنه مصر من أجل أن "يعيش حلمه"، كما يصفه لصحيفة "شبيغل أون لاين" الألمانية. لذلك، فإنّ قصة سلام تختصر محاولة الباحثين المصريين الشباب للسيطرة والعمل في بلدهم، بدلاً من الاعتماد على البعثات الأجنبية والدول الغربيَّة.
العودة إلى مصر
وبعد العودة إلى مصر والبحث والتنقيب المستمر والجدي في المنطقة، وجد الفريق المصري، ولأوّل مرة، العديد من العظام، اتّضح في ما بعد أنّها تعود إلى نوعٍ غير معروف من الديناصورات، والذي صار يعرف باسم Mansourasaurus shahinae. ونشر فريق سلام النتائج التي توصّل إليها في مقال علمي محكّم نشر في مجلّة "الطبيعة" Nature المشهورة، إذْ أكّد البحث أنّ هذه الديناصورات عاشت هنا قبل حوالي 70 إلى 80 مليون عام. وزنها يبلغ 5 أطنان، وتمتلك عنقًا طويلاً جدًا يصل إلى حوالي 10 أمتار. وتظهر بقايا الهيكل العظمي لهذه الديناصورات، أنّها تطورت بالآلية نفسها التي تطورت فيها الديناصورات المكتشفة في أوروبا، وهذا مؤشّر قوي على وجود جسرٍ برّي بين القارات آنذاك، الأمر الذي يتوافق مع الكثير من النظريات الجيولوجية. ويشير سلام إلى أنّ ظروف الطقس والرياح تساعد على كشف كنوز الأرض، إذْ إنّ "كل شيء هنا مليء بالعظام"، على حدّ تعبيره.