بحقٍّ لم يخوّله لي أحد

04 يونيو 2020
(فدوى الزياني)
+ الخط -

الليل الليل

في الليل لا شيء أسوأ من الصمت والمسافات
في الليل نحن كل شيء في النهار نحن لا شيء
نتبع النهار لاهثين من أكمة إلى أكمة بينما ينتظرنا الليل بأسره وفي كل مكان.
الليل عزلة العاشق
حدائق شوق ينبسط عطرها في صدره حين يكون ذاته
الليل ألفة الألوان مع بعضها
يترامى الفراغ على الفراغ يسيل الوقت ناعماً على زجاجه الأسود
يتشابه الشيء مع نقيضه حتى هذا العشب الذي كان أخضرَ في الصباح.
الليل بحّة توهّجت في صخب رجال البلوز
تسلّلت من أرواحهم لتتمدّد في الأوردة انفجارات صغيرة
الموسيقى ليل آخر يعبر نهر الحياة ليدلّك على بهجة الغناء في الجهة المقابلة.
ربما ليس لدينا ما يمكن اعتباره مهمّاً
على هذه الأرض
دور اللّيل أن يسحب الغطاء على خرابنا
عندما نتداعى على الأسرّة مثل عمارة مغشوشة البناء.
في نهاية الأمر
هناك ليل يحدث وليل لا يحدث
بينما تنخفض العتمة
حين يكون عطر الوردة دليلَ بكائها
حين تلمع نجمات البحر ولا أحد يراها
حين يسقط الشهاب على صخرة
يمنحها خدوشاً مضيئة
حين يستعير الشعر أجنحة العصافير
حين يعثر عليك الفراغ
وأنت تغرز أنيابك في لحم ليل آخر
لا أحد سيحميك من وحدتك سوى وحدتك
لا أحد سيحمي الليل من الوحدة
سوى أغنيات السكارى المجهولين.


■ ■ ■


ما يحدث في غرفة علويَّة

يوم آخر
نخبك النيئ
يا لحمي المرّ
لنبتكر أشياء تافهة للتسلية
مثلا لنرمش سريعاً
حتى يُصبح غسيل جارتنا الأرملة
طائرات ورقية ملوَّنة
لنصنع من الجوارب كرةً
نصوّبها نحو عصافير تشحّ ليلاً بالغناء
لنَنْقع الرّيش في حناجرنا
ونغرّد معاً على إيقاع الوقت الذي لا يتحرّك
نقيس المسافات بأظافر ميت
ثم لنتراشق عالياً بالضحك كفيَلة ترقص في بركة
هكذا يحدِّث رجل مهجور
جلده الذي يتفتّق
بينما يأكله الفِراش
بمزاجٍ شرس.


■ ■ ■


مجرّد لسعة نحلة

جئتُ إلى هذا العالم في عجالة
لا صبر لديَّ
لذا أخسر معارك الحبّ قبل الحرب
أحب التحلية قبل الأكلات الدسمة
لذا أشرب الماء لأُفسد لذّة الطعام
أفضّل القبلات على صيد الأسماك فوق الأسرّة
لذا تزوّجتُ باكراً
لكن البطون المنتفخة سرٌّ لا تشي به الشفاه المبلَّلة...
عشبَةً كنتُ
سريعاً صرنا غابةً
بمهارة عظيمة
أكملتُ مهامي المقدّسة
أسرعت المشي في أحلامي
حتى ظننت أنني ضيّعت دهون جسدي
التي لم توزّعها وصيفات أفروديت بشكل لائق
وحين بدأت فعلياً أحبّ ما أنا عليه
في محاولة جيّدة لتخطّي اليأس
أتذكّر الأمور الصحيحة التي قمتُ بها
فلا أجد
أتذكّر الأمور السيّئة،
لا شيء أيضاً.
ولأنّني أُتقنُ السقوط
ولا أتقن التحكُّم بجسدي
ما زلت أصعد السلالم ثلاث درجات دفعةً واحدة
ها أنت يا جسدي مليء بالكدمات
تشبهُ كائناً بعنق وسيقان طويلة
أجلسَته يدٌ ما في مقصورة خلفية لقطار كهربائي
لا شيء تستطيع فعله
سوى أن تطلّ من النوافذ
مستنكراً كلَّ الأشياء التي تمضي خاطفة
لكنك تُدرك جيّداً
سيمضي كلُّ هذا دون أن ينتبه أحد
وستكون الحياة مجرّد لسعة نحلة في عنق زرافة.


■ ■ ■


لم أحدث بعد

قبل أن أُولَد
أخفيتُ خبر الحمل عن أُمّي
أفسحت مساحة للرَّقص بسيقان عارية
وجسد مخرم ينفع لانسياب الغناء بداخله
أفرغتُ مكاناً لآلات موسيقية
ودُمىً كثيرة تشبهني
قبل أن أُولَد
محوت ملامحي بين الوجوه
حاذرتُ أن لا أترك أثراً بأيّ مكان
صلّيت لكل الآلهة
أن لا يعلم أحد بوجودي
وأوّلُهم أبي.


■ ■ ■


عشاءٌ للآلهة

بعد أن ننجو
بعد قرابة مئة عام أو أقل
ستعود الفوضى إلى الأرض
سنلهو جميعاً مثل دجاجات في حظيرة
بينما الآلهة وكعادتها
تفكر في طريقة جديدة
لتناولنا على العشاء.


■ ■ ■


شيء ما سيحدث الليلة

وجهك على وسادتي
كما العادة ستأخذ الجانب الأيمن من السرير
تمدّ ذراعك إليّ كما تمتد أشجار الأرز إلى السماء
يتبسّط عطرك بالغرفة مثل نبتة سحريّة
وكما امرأة تعوّدت على الهجران
سأتباطأ مدّعيةً الشرود
سأقلب أشيائي في كسل
أغيّر وجهتي كلّ مرّة كما يفعل المترنّحون
وأمشي إليك كمن يمشي إلى بلاد بعيدة
في الطريق...
أضع ملاك الحبّ المنهَك على الكرسي الهزّاز
أجمع فاكهة الشوق الحزينة في سلال صدري
أمسح غبار السهد على الجدران
أربّت على رأس الشموع وأُشعلها
ألفّ أعذار غيابك بشريطٍ أحمَر
أفتح الأبواب، أغلقها
أُطلق سراح أناي المتعدّدة المحبوسة في أقبية المرايا
أخبّئ قميصك الأسود في الركن المنبُوذ
الذي لا يصل إليه الضّوء
أمضغ حذاءك وأبلعه كما تفعلُ طفلة بعِلكة التّوت
أغيّر فساتيني
تسريحة شَعري
أضع أكثر من عِطر على جسدي
أضع الكُحل وأمسحُه
أضع أحمر الشِّفاه وأمسحُه
أضع وجهي وأمسحُه
قُلت: سأنتظرك ريثما تجيئين
أنا الآن هنا
أضع رأسي على رعشة قلبك
أرفع أهدابي
أنظر إليك كما ينظر بحَّارٌ من قاع الغرق
وحين أقترب لأقبّلك
تقبلني الوحدة بشفاهٍ باردة
باردة جدّاً كشفاهِ الموت.


■ ■ ■


بعد منتصف اللَّيل

يبدو كلُّ شيء على ما يرام
لكنه في الحقيقة
وقت مثالي لارتكاب الجرائم
حين تلعق القطط وبر سيقانها
خلف الحاويَّات
حين يتسلَّل الأرق كعقرب
لينام تحت فراش جثَثٍ متعبة
أضربُ الفكرة بالفكرة
أرفعُ عالياً سقف الغرفة
أُطعمُ حاجة الهاوية للصّراخ
وأسقط.

بعد منتصف اللَّيل
منذ سبع سنوات
حين تصاعد من فم أمّي بخار كثيف
وأنا أصحو
كاملة الخَواء
معزولة في غابةٍ مطيرة
ولا أحد ممَّن أحببتهم
وضع حدّاً لهذا البلل.


■ ■ ■


نهاية العالم

سيحتفي العالم بنهايته هذه الليلة، الأصدقاء الذين لم يكونوا أبداً أصدقائي يرفعون في وجهي نخباً مجهول النوايا، وكما يحدث في مشهد ساخر أبدو امرأة مقلوبة عميقاً نحو الداخل، ذراعي ممدودة إلى لا شيء
أبادل النخب دون كأس ودون نبيذ
بينما في الحقيقة وعلى الطاولة أخفي ذراعين لفلّاحة بوهيمية كلّ تفكيرها أن تنزع الضجر الشائك عن ظهر الأيام التي تمضي سريعاً إلى المقبرة.
قبل الموت بدقائق...
أفكّر كيف أقنع قناني البيرة الفارغة أن تحب بعضها خارج عماء العالم!


■ ■ ■


ضدّ الوحدة

بحقٍّ لم يخوّله لي أحد
أرمي النَّهر بزورق الطفولة الورقي
بقِشرة البرتقال اليابسة منذ قرونٍ في جيبي
بحجر يبحثُ عن صوتِه
بفردة حذاءٍ تجهَلُ الوصُول
كطفلٍ لم يعتنِ بهِ أحد
أعود إلى البيت سيراً على العُشب
ألعن المسافات بالسباب وَالشتائم البذيئة
ثُمَّ كإله لم يهْدِه أحد لعبةً ما
أعجنُ جسدي
أخلطُ الطين بالطين
وَأبتكر طريقة للتكاثر.


* شاعرة من المغرب

المساهمون