بحثًا عن يد لقبضة البلاي ستيشن
لم أدخل قبلاً مقبرة. قرب قصر أمير فرنسي ترتاح هذه المقبرة، تطلّ على المدينة من فوق، على الباب يخبرونك أنها مراقبة بالكاميرات، ويرسمون خطاً قطرياً على وفاء الكلاب. وهناك شيء من الخشوع شعرت به أول مرة دخلتها، انخفض صوتي وخفّ خطوي، والحصى كان يحتجّ تحت قدمي. إلى اليمين هناك لوح رخامي عريض مكسو بالتذكارات الزجاجية والزهور، يقول التاريخ 1919، إنه "عمو" عاش حياة طويلة ومات محاطاً بمن تكلّف عناء شراء تذكار زجاجي ووردة، لكن التذكارات مكسوة بالغبار، أشعر أنهم نسوه، وأحسدهم.
هناك غرفة يطيب لي زيارة قاطنها، وإن كنت لا أستطيع تجاوز الباب المقفل. هناك في الداخل كرسي خشبي، ورف وتذكار، التهم الغبار هذه الحجرة بالكامل وفعل الصدأ بالباب الحديدي ما فعله بها الغبار. إنها أثرية وأخبروني أن هذه العائلة انتهت، هكذا لم يعد هناك أحد من أفرادها حيّ ليزور أسلافه، لا يهتمون هنا بإنجاب عشيرة تحمل اسم العائلة، ينامون بهدوء في حجراتهم مع التذكارات الزجاجية والورود اليابسة.
كنت لأحلم بنهاية كهذه لولا أن الحياة المديدة هي إحدى بنود لائحة مخاوفي. أريد أن أرحل بكامل قواي العقلية وقدرتي التامة على فرد ظهري والنوم دون ابتلاع شريط من الحبوب، ومثل جدتي أريد "ألا تثقل بي الأرض ولا يكرهني عبد"، أريد أن أرحل في الأربعين، امرأة كاملة لا يبدو "الروج" الأحمر مثيراً للشفقة على شفتيها.
لا أحد يزرع "عرقاً أخضر" هنا، كنت أرى النساء يزرعن العروق الخضراء حول القبور أثناء دروس القيادة. كنت أدور حول المقبرة عدة دورات قبل أن أستدير عائدة إلى الطريق العام، لماذا المقبرة؟ لأن المدينة ازدحمت بالقبور، أين سندفن موتانا؟ في الحدائق العامة والساحات، والأراض التي لا يملكها "المسنودون"، نستدين تكلفة الحفر وندفن، نستدين مرة أخرى وندفع تكلفة تعمير القبر، ونسخى بالعروق الخضراء.
البارحة حدثني صديقي أن "نبتة الحبق عنده حزنانة"، عزف لها العود وغير مكانها وغنى لها، إنها عنيدة ولا ترضى، ألهذا نزرع الحبق على القبور وتخافه أمي؟ ألهذا لا يزرعون الأخضر على القبور هنا؟ لئلا يزداد تعداد الحزانى واحداً؟
ما الذي يربطني بهذا المكان ولماذا لا أكفّ عن العودة إليه؟ هل هي رغبة بالهرب من العيون؟ لا عيون هنا سوى العيون الزجاجية لكاميرات المراقبة، لا أدري لماذا يراقبون المقبرة، ماذا لو أردت ارتداء فستان أسود من الشيفون ووضع قبعة كبيرة، مع أنني لا أحب القبعات، ورش نصف زجاجة "غيرلان" على عنقي ومعصمي، وطلاء شفتي بالأحمر الداكن ورسم عيني بالكحل الأسود كي يبدو وجهي درامياً حين أبكي؟
على من سأبكي؟ لا يهم، سأختار قبراً بتذكار زجاجيّ وحيد، سيكون قديماً ومات صاحبه في الحرب. لن يكون إيجاده صعباً فلا أكثر من الحروب في تاريخ الشعوب، وسأستلقي عند قبره وأبكي، ثم سأضحك على كمّ الزيف الهائل البادي علي، ولا يمكنني أن أفعل هذا بوجود الكاميرات، حسناً أفهم الآن وجهة نظرهم، العالم مليء بالمجانين والسكارى، وفي الأموات ما يكفيهم.
هل أحنّ الآن إلى طقوس الحزن؟ مفهوم أن أحنّ لها، أصبحت الحياة مختلفة كثيراً مذ تحوّل الحزن من طقس إلى أسلوب حياة.
أجبرتني الأسئلة والعيون الفضولية وسيل الفتاوى الشرعية على خلع القميص الأسود لكن شيئاً منها لم ينفض السواد عن روحي، إنني في حداد جثا على ثلث عمري وليس فيه ملابس سوداء ولا عويل، إنه شكل أعمق من أشكال الحداد، يأخذ هيئة الكراهية احياناً، وهي أصعب الأحيان، يطلبون منك ألا تكره لكنك تكره، تكره كثيراً أن "ترمي بشرر" ما زالت جالسة على رفّ مكتبتك أنت، رحل قبل أن تلتقيه وتعيره نسختك منها مع أنك لا تعير كتبك لأحد.
كنت ستعيره نسختك من "ترمي بشرر" لكنه رحل، وأنت تركت نسختك في حلب ورحلت.
على أحد القبور هنا قبضة بلايستايشن مات صاحبها شابًّا عنها، تركوها له مع الكثير من الزهور الرخامية، كتبوا له لن ننساك، لن تُنسى.
هل مات بحادث سير؟ أم أن كليته تخلّت عنه؟ هل خانه كبده؟ مات قطعة وحدة ودفنته أمه دون ثقوب على الأرجح. يؤلِمُني أنَّ الجثث في بلادي مثقوبة، تسرحُ الريح في أجسادهم وتعود إلينا. إننا نخزنهم في صدورنا، ولهذا لا ننسى، نشمّ الحبق الذي تغذى بهم، ونتنفس الهواء الذي تعشّى بهم. إن هذا تخريف، لا ننسى لأننا لا نريد أن ننسى، النسيان فعل خيانة، ولا تدع أحداً يقنعك بعكس ذلك.
هل تنبت للأموات أطراف تحت التراب؟ ليس عدلاً أن نضع لشباب بلادي قبضات بلايستايشن على شاهدات ينامون تحتها دون أيدٍ.
هل سبق وأخذت فتاة صديقها في جولة سياحية إلى مقبرة؟ وهل سبق لشاب أن أحبّ المقبرة وجلس أرضاً يخترع مع صديقته عن سكّانها الحكايات؟ لم نصادق الموت، ولم نتعايش معه أبداً، ولا تدع هذه الجلسة وضحكاتنا تخدعك.
ولا تدع أيضاً مسمى شهيد يخدعك، إن كل من مات في بلادي قُتل، عامر قُتل، باسل قُتل، نقول شهداء ليكون فيهم عزاء لنا، لنسعى لثأر بهيئة سلام، لكن هذا لا يعني أننا أحياء من بعدهم، لدينا عداوة مع الموت عنوة، ولن نحبّه يوماً ولن نقبله.
ما الذي يأتي بي إلى هنا إذاً؟ إنني أحلم، أحلم بحياة يموت فيها أصدقائي هرمين طالبين للموت وباحثين عنه بعد أن عاشوا، بعد أن عاشوا حقاً، وبعد أن متّ قبلهم، وبكوا عليّ دون أن ينكسروا، آتي إلى هنا لأحزن على بلادي والأحياء الأكثر موتًا من الطباشير المتبقية تحت شواهد هذه المقبرة.