ببغاء أم محمد

30 مارس 2015
"فادي.. فادي.." ظلّ الببغاء ينادي (حسين بيضون)
+ الخط -

كانت أم محمد سيدة "بحالها". لا هي اجتماعية ولا هي منطوية على ذاتها. وقد تركت أثراً لطيفاً في البناية العتيقة.

ولم يكن أبو محمد شخصاً جافاً. كان لطيفاً بدوره، وكان صاحب ابتسامة ونكتة حاضرة. رجل ودود مع معظم جيرانه ومحيطه.

لا أحد يذكر كيف وصل الببغاء الرمادي إلى منزل أم محمد. هناك من يقول إن ابنتها، مضيفة الطيران وقتها، حملته معها يوم عادت من رحلة عمل إلى أحد البلدان الأفريقية. وقد قرّر الجيران في البناية مع الوقت أن الببغاء لفادي، أصغر أبناء أم محمد الستة، فهو الإسم الذي كان يلعلع به الببغاء طوال النهار وكلما مرّ أحدهم بالقرب من قفصه.

تآلف الببغاء ليس مع العائلة فحسب بل مع الجيران أيضاً. كانت متعة الأطفال أن يهرولوا على درج البناية كلما سمعوا صوت فتح الباب في شقة أم محمد. يركضون ليتلصّصوا على الضيف الذي حضر من البلاد البعيدة وصار جاراً دائماً في بنايتهم.

والببغاء الذي لا يذكر أحد اسمه، لسبب غير واضح بالضبط، كان فرداً كامل الحقوق في عائلة أم محمد. إذا اجتمع في بيتها ضيوف رحّب بهم وشاركهم الحديث بصفيره، وإذا مرّ أحد من أمام قفصه صار يقفز و"يتنطّط" في جميع أنحائه، وإذا اشتد القصف خلال الحرب، كان القفص أول ما تحمله أم محمد عند خروجها إلى "بيت الدرج". ومع أن القفص كان ثقيلاً ورفعه يشكل محنة فوق ظهرها العجوز، إلا أنها كانت تفعل ذلك بكل حب الأم الممكن.

وأم محمد كانت متفائلة بطبعها بالرغم من الحرب الدائرة التي مرّ بها الكثير من الجنون. كانت كلما اشتد تساقط القذائف تقول كلاماً هادئاً للحدّ من تعصيب واحتقان الخائفين الذين تلاصقوا بعضهم ببعض للتخفيف من هول أصوات الانفجارات. كلام يتخلّله ذكر كثير للخالق الذي لن يتركنا. وكانت كلما انقطعت الكهرباء خلال القصف، ردّدت عبارتها الدائمة: "بكرا بتخلص الحرب وبتجي الكهرباء". كانت أم محمد، ببنيتها الضخمة وصوتها، بالرغم من غلاظته وبحّته الغريبة، نسمة رقيقة في الطابق الثاني من البناية.

انتهت الحرب وتفرّقت عائلة أم محمد كلٌ في حال سبيله. حتى فادي، أصغر الإخوة، هاجر إلى الخليج. لم تعد هي تنشغل إلا بأبي محمد وبالببغاء الذي صار أقرب الناس إليها.

سكت صوت الببغاء بعدما غابت أم محمد عن بيتها. في اليوم التالي لوفاتها، توقف عن مناداة فادي وعن الصفير والقفز داخل القفص. ثم توقف عن ابتلاع حبوب دوار الشمس وامتنع عن شرب الماء. انتحر الببغاء بعد رحيل صديقته. لم يتمكن من تحمّل غيابها.

حدث كل ذلك وحبيبتنا الكهرباء لم ترجع بعد.
المساهمون