خطف ديميتري باييت الأضواء من الجميع في افتتاحية اليورو، بعد تسجيله هدفاً أسطورياً في شباك رومانيا، ليخطف الديوك أول ثلاث نقاط بالبطولة الأوروبية، وينقذ صانع لعب ويستهام مدربه الوطني ديديه ديشامب، الرجل الذي تعرض لانتقادات واسعة بسبب استبعاد أكثر من لاعب، قبل أن يقدم مستوى غير متوازن في الاختبار الأول على أرضه ووسط جماهيره، لكن كل شيء تم تعديله بواسطة الرقم 8 الذي أنهى الأمور بمهارة يُحسد عليها قبل صافرة الحكم في التسعين.
صانع اللعب
لعب المدرب ديشامب بخطة قريبة من 4-3-3، بتواجد كانتي في خانة الارتكاز خلف كل من ماتويدي وبوغبا يساراً ويميناً، رفقة ثلاثي هجومي متحرك، يتقدمه جيروه في المنطقة بين الثنائي غريزمان وباييت، لكن أدى الفريق الشوط الأول سيئاً، بسبب افتقاد التكتيك إلى أجنحة حقيقية على الخط، مما جعل دفاع رومانيا في وضعية أفضل، بسبب نقص القدرة على جعل الملعب عرضياً في الحالة الهجومية.
يميل غريزمان كثيراً للعمق، هو مهاجم متأخر أكثر منه لاعب جناح، كذلك تكمن خطورة باييت خلف المهاجم الصريح في المركز 10، لذلك لجأ ديديه إلى لاعبي الوسط من أجل ملء الفراغ على الأطراف، لكن انخفاض مستوى ماتويدي وميْل بوغبا إلى اللعب الاستعراضي، كلها أمور جعلت أصحاب الأرض في وضعية صعبة للغاية.
تغييرات ديشامب كانت منطقية للغاية، على الرغم من أنه قام بإخراج أفضل ثنائي لديه، غريزمان وبوغبا، ليعطي الفرصة إلى الأجنحة السريعة، كومان ومارسيال هما الأفضل على الرواق في التشكيلة الفرنسية، مما جعل ماتويدي يلعب أكثر في العمق، ويتحرك باستمرار عمودياً من الخلف إلى داخل منطقة الجزاء، كل هذا من أجل أمر واحد فقط، فتح الفراغ الكافي لاستلام باييت الكرة، من هنا جاءت لعبة المباراة في الدقيقة الحاسمة.
جزيرة الموهوبين
لا ريونيون أو جزيرة ريونيون، واحدة من أقاليم ما وراء البحر الفرنسية، وجزيرة تقع شرق مدغشقر ضمن الأجواء الأفريقية، لكنها خاضعة إدارياً وقانونياً لفرنسا، لذلك يحلم كل طفل صغير في هذه المنطقة أن يتألق في مجال كرة القدم، حتى يستطيع السفر إلى أوروبا، كما فعل أكثر من نجم مثل جان ميشيل فونتيه وجيرمي موريل ومانداني، وأخيراً ديميتري باييت، اللاعب الأهم على الإطلاق في تاريخ هذه الجزيرة خلال السنوات الأخيرة.
بدأ باييت تعلم الكرة في فريق سانت فيليبي، أحد الفرق المعروفة في الجزيرة، والذي يهتم كثيراً بتطوير اللعبة داخل القارة الأفريقية، من خلال معلمين ومدربين فرنسيين، تتلمذ باييت تحت قيادتهم، واستفاد كثيراً من الطرق التقنية الحديثة التي يوفرها هذا الكيان، لتتم عملية صقل موهبة الصغير، وينتقل سريعاً إلى نادي آخر بالجزيرة، قبل أن تلتقطه سريعاً أعين لو هافر، المدرسة الكروية الأشهر على الإطلاق في فرنسا.
رياض محرز ومانداندا وبول بوغبا وميندي ولاسانا ديارا، وأسماء أخرى تألقت في سماء الكرة الفرنسية، كلها بلا استثناء تعلمت كرة القدم في أكاديمية لو هافر، وباييت أيضاً حصل على فرصته مع لو هافر، ليقول عن هذه الفترة المهمة في مسيرته، "كنت صغيراً للغاية، هناك تعلمت مبادئ اللعبة فيما يخص التمرير والتمركز وتنمية المهارة الفردية وكيفية استغلالها جماعياً مع الفريق، لقد تحولت من لاعب شارع إلى لاعب فريق كرة قدم".
معامل الكرة
عاد باييت من جديد إلى جزيرته المفضلة، ولعب مع فريقها اكسيلزيور لمدة عامين، قبل أن ينتقل بشكل احترافي إلى فرق نانت، سانت إتيان، ليل، وأخيراً مارسيليا، ليحصل على فرصة ذهبية ويتألق بطريقة مضاعفة ليطير إلى إنجلترا مع ويستهام، ويتحول إلى نجم صف أول في البريميرليغ، قبل أن يصبح أحد أهم لاعبي المنتخب الفرنسي الأول في فترة زمنية قصيرة.
قصة باييت مثلها مثل أي قصة أخرى، لكنها تختلف فقط في طريقة تعاطي الاتحاد الفرنسي لكرة القدم مع أكاديميات اللعبة في الجزر الأفريقية البعيدة، فالدولة الفرنسية تقدم دعماً كاملاً للجزر مثل ريونيون، من أجل تطوير الناشئين هناك، والاستفادة القصوى من كافة المواهب المتاحة، حتى يحصل المنتخب الفرنسي على نصيب الأسد من المواهب في مختلف بلدان العالم.
الأمر لا يرتبط فقط بهذه الميزة، لكن أيضاً يوجد بنود رسمية في عقود هؤلاء الصغار مع أندية الجزيرة، ينص كل بند على حصول النادي الأصلي على نسبة مالية نظير انتقال لاعبه من فريق إلى آخر، لذلك يستفيد نادي جزيرة ريونيون، حتى وقتنا هذا، من جزء بسيط من قيمة انتقالات باييت في فرنسا وإنجلترا، مما يعطيه فرصة أكبر في استثمار ذلك بالبحث عن مواهب جديدة وأسماء أخرى، لتدور الحلقة بشكل كامل، وينتج الفريق الصغير أكثر من باييت، ويستفيد منتخب فرنسا في النهاية من هؤلاء الصغار في البطولات القارية والعالمية.
النضج الخططي
عرف المتابعون باييت بشكل أكبر خلال العامين الأخيرين فقط، على الرغم من أنه من مواليد عام 1987، ولعب مع عدة أندية كسانت إتيان وليل قبل انضمامه إلى مارسيليا، لكن كل شيء تغير في حياة اللاعب بعد قدوم مارسيلو بييلسا إلى فرنسا، وقيام اللوكو الأرجنتيني بقيادة فريق مارسيليا، لتتحول مسيرة النجم إلى طريق مغاير، ويتحدث بكل فخر عن معلمه، مؤكداً أنه الشخص الذي حوله إلى لاعب أفضل، وجعله أقوى على الصعيدين البدني والتكتيكي.
قدم ديميتري نفسه كلاعب مهاري، لكنه فردي للغاية، لا يمرر كثيراً إلى زملائه، ويبالغ في الاحتفاظ بالكرة، مع نزعة هجومية واضحة دون أي واجبات دفاعية، ليشارك في الألفية الجديدة وكأنه صانع لعب من حقبة التسعينات، كلاسيكي للغاية على خطى خوان رومان ريكلمي، لذلك حصل على إعجاب الجماهير فترة زمنية وجيزة، مثله مثل الموهوب الآخر جوركوف.
فقط بييلسا عرف من أين يستفز هذا اللاعب، ليعمل معه على أساسيات التمركز، وكيفية الضغط العالي على دفاعات المنافسين، مع استخدام أحدث الدراسات الخططية في تقييم أرقامه الدفاعية ومقارنتها بمردوده الهجومي، ليصبح باييت صانع لعب متكامل، يسدد من بعيد، يصنع الأهداف ويسجلها، مع وعي كامل بأبجديات مركزه الجديد، من خلال عودة مستمرة لمساندة الوسط، ومحاولات قوية لخطف الكرات قبل أن تصل إلى نصف ملعب فريقه.
وبالعودة إلى مباراة رومانيا، قدم باييت كل ما يحتاجه المدرب، بأداء مميز وهدف إعجازي ضمن به النقاط، دون نسيان الميزة الأهم التي تجعله لاعباً أفضل، "الرؤية" الكروية رفيعة المقام، من خلال إحساس كامل بمكانه داخل الملعب، واختياره التوقيت المناسب لخروج الكرة من بين أقدامه، حقاً نحن أمام مشروع نجم حقيقي لهذه البطولة.