في السابع والعشرين من شهر مارس / آذار المنصرم، "حُرّرت" بالميرا، أو لؤلؤة البادية السورية، كما توصف تلك المدينة بشقّها الآثاري الهائل. نقلت وسائل الإعلام الخبر باعتباره تحريرًا للمدينة بأيدٍ مشتركة روسية وسورية ضدّ داعش، التي استولت على "بالميرا" وتدمر في شهر مايو / أيار المنصرم. وفي حين كانت وسائل الإعلام تنقل الخبر، اتصل "القيصر" فلاديمير بوتين بالمديرة العامة لمنظمة اليونيسكو، إيرينا بوكوفا، و"أبدى" استعداده للمشاركة في مشروع طارئ للمنظمة من أجل ترميم "بالميرا". ليس الترميم ها هنا، خدمة ثقافية، لموقع يعدّ من عيون "التراث الإنساني"، بل هو أدنى إلى الاستثمار في "صورة القيصر". نعم الثقافة تغطي السياسة القذرة، لذا لم تتلكأ المديرة العامة للمنظمة الأممية بقبول "عرض" القيصر، خصوصًا في ما يتعلق بالاعتماد على خبرة أعضاء متحف سانت بطرسبورغ؛ الإرميتاج. وبكلام البزنس تمّ "تلزيم" ترميم "بالميرا" للقيصر.
اقــرأ أيضاً
وإذ حصل القيصر على ما أراد، أراد الاحتفال بضمّ اللؤلؤة "البالميرية" إلى عقد سلطته المدججة بالطائرات الحربية، ولم يجد أفضل من الموسيقى للاحتفاء بالاستحواذ على المدينة الآثارية التي تشكّل بؤرة أساسية في "المركزية الأوروبية"، أمرٌ يفسر إلى حدّ كبير هرع مثلًا بعض الآثاريين الفرنسيين إلى "بالميرا"، وتسخيرهم لآخر ما توصلت إليه التقنيات في المسح والتصوير، وتقديم حلول "الترميم"، أمرٌ يفسر أيضًا خبث الإنكليز في تدشين نسخة افتراضية لقوس النصر التدمري في إحدى ساحات لندن. والأمرُ ذاته، أي الاستحواذ، انسجامًا مع المركزية الأوروبية، يفسّر الغياب السوري عن كل شيء.
ليس بدءًا من غياب تدمر، المدينة السورية الواقعة لصق الآثار المهيبة، والمزنرة بشجرات النخيل. تدمر مدمرة وأهلها لا يدخلون في حسابات القيصر ولا حسابات اليونيسكو ولا أي حساب آخر. الغياب الثاني هو غياب السوريين عن أمسية الخميس الماضي "البالميرية" التي نُظمت دعمًا لليونيسكو: حيث في المدرج الروماني كانت الحفلة الموسيقية الروسية للأوركسترا السمفونية لمسرح مارينسكي في سان بطرسبرغ، بقيادة أوركسترالي روسي شهير، وصديقٌ للقيصر طبعًا، اسمه فاليري غيرغيف.
ليس بدءًا من غياب تدمر، المدينة السورية الواقعة لصق الآثار المهيبة، والمزنرة بشجرات النخيل. تدمر مدمرة وأهلها لا يدخلون في حسابات القيصر ولا حسابات اليونيسكو ولا أي حساب آخر. الغياب الثاني هو غياب السوريين عن أمسية الخميس الماضي "البالميرية" التي نُظمت دعمًا لليونيسكو: حيث في المدرج الروماني كانت الحفلة الموسيقية الروسية للأوركسترا السمفونية لمسرح مارينسكي في سان بطرسبرغ، بقيادة أوركسترالي روسي شهير، وصديقٌ للقيصر طبعًا، اسمه فاليري غيرغيف.
الموسيقي البارع، لم تنقصه البلاغة التي تمجد المركزية الأوروبية وموقع "بالميرا" فيها، في كلمته أمام جمهور من الجيشين الروسي والسوري. لعل أحدًا لم يكن يعلم أن الجيوش تحب الموسيقى إلى هذا الحد، لكنها الثقافة التي تغطي السياسة القذرة. الأفدح كان على الشاشة، حيث الرئيس المنتصر فلاديمير بوتين، يوجه كلمةً بدوره، لا تشذّ البتة عن الدوران في فلك "المركزية الأوروبية"، ولعلّ النقل عبر الأقمار الصناعية، أوهمه أنه موجود في مكان يخصّه، مكان غربي تمامًا؛ تراث إنساني وأوركسترا. الأكثر فداحة كان المذيع الروسي الذي راح بلكنته الأجنبية، يقرأ برنامج الحفل بعربية ركيكة، قوامها ترجمة مستعجلة استشراقية، موجهة للغائبين عن الحفل، أي السوريين، خلا عدد قليل منهم، لزوم الـ "تزيين".
اقــرأ أيضاً
يستطيع أي روائي أو أديب، تسخير هذا المشهد الممتلئ بالمفارقات والمرارات و"الرسائل السياسية القيصرية"، ليكون حاضرًا في أدب عبثي، لا ينقصه خبث، كأن تُكتب حكاية سندريلا بقلم زوجة أبيها الشريرة، فتبقى الطفلة المقهورة مقهورةً ويتم تغييبها عن الحفل. غياب أدنى إلى التغييب ويشبه غياب تدمر وتغييبها عن "بالميرا".
الفصل بين "بالميرا" وتدمر، ليس أمرًا سوريًا، والسوريون لم يولدوا من صورة استشراقية، وتغييبهم وغيابهم المتعمّدان والمعممان على ما يبدو، يظهران في أكثر من مناسبة، لعل من آخر ابتكاراتها اجتماعا في مدينة أوروبية لصوغ دستور سوري.
والفصل بين "بالميرا" وتدمر، ظهر أيضًا في ترك تدمر في السجن، مجازًا وفعلًا، إذ إن الكاميرات التي هرعت لتصور "بالميرا"، لا تحب التدمريين ولن تصور بيوتهم المهدمة، وهي غير مهتمة بهروبهم من القتل، إذ من شأن البحث في أمور مماثلة توسيع منظور الإرهاب ليشمل مع داعش طائرات القيصر وبراميل النظام. والكاميرات الغربية تعشق الحجر لا البشر، تهوى "بالميرا" لا تدمر.
تحت النغمات الوترية لموسيقى باخ في "الأمسية البالميرية"، يسهل تخيّل القيصر متمخطرًا بعربةٍ ذهبية، تدك سنابك خيولها المدججة بالطائرات، قلب السوريين في صورتهم التدمرية. حيث لا أحد يهتم للضحية، رأينا ذلك مؤخرًا في حلب، المدينة التي في يوم قيامة سيدنا المسيح، عُلقت على خشبة، وتناهبها القتلة بالطائرات والبراميل.
اقــرأ أيضاً
السوري كالمتفرج والضيف في بيته المهدم، يتأمّل تضييق منظور الإرهاب ثم توسيعه أو العكس سيان، من أجل هدف وحيد: قتل السوريين. وإذ يسمع النغمات في "الأمسية البالميرية" ينكفئ على نفسه، مصغيًا في قلبه لمقطوعة كتبها الموسيقي وقائد الأوركسترا الاستثنائي صلحي الوادي: "تأملات على لحن حياتي أنت" لمحمد عبد الوهاب، ليقول لتدمر: "حياتي أنت".
الفصل بين "بالميرا" وتدمر، ليس أمرًا سوريًا، والسوريون لم يولدوا من صورة استشراقية، وتغييبهم وغيابهم المتعمّدان والمعممان على ما يبدو، يظهران في أكثر من مناسبة، لعل من آخر ابتكاراتها اجتماعا في مدينة أوروبية لصوغ دستور سوري.
والفصل بين "بالميرا" وتدمر، ظهر أيضًا في ترك تدمر في السجن، مجازًا وفعلًا، إذ إن الكاميرات التي هرعت لتصور "بالميرا"، لا تحب التدمريين ولن تصور بيوتهم المهدمة، وهي غير مهتمة بهروبهم من القتل، إذ من شأن البحث في أمور مماثلة توسيع منظور الإرهاب ليشمل مع داعش طائرات القيصر وبراميل النظام. والكاميرات الغربية تعشق الحجر لا البشر، تهوى "بالميرا" لا تدمر.
تحت النغمات الوترية لموسيقى باخ في "الأمسية البالميرية"، يسهل تخيّل القيصر متمخطرًا بعربةٍ ذهبية، تدك سنابك خيولها المدججة بالطائرات، قلب السوريين في صورتهم التدمرية. حيث لا أحد يهتم للضحية، رأينا ذلك مؤخرًا في حلب، المدينة التي في يوم قيامة سيدنا المسيح، عُلقت على خشبة، وتناهبها القتلة بالطائرات والبراميل.