قبالة سواحل مدينة طبرق الليبية، وفي عمق البحر الأبيض المتوسط، غرق مركب صيد مصري، ليلة 26 يناير/كانون الثاني الماضي، على متنه 15 صيادًا تتراوح أعمارهم بين 17 و25 عامًا، جميعهم من أبناء قرية "برج مغيزل"، والتي تبعد عن مكان الحادث مسافة 650 كيلومترا. وغرق من الصيادين 10، انتشلت قوات خفر السواحل الليبية جثامين 8 منهم، وبقي 2 في عداد المفقودين، ولم ينجُ من المركب إلا 5 صيادين فقط.
وكان المركب المنكوب قد تعرّض للاختطاف قبل حادث الغرق بأسبوع، على يد مجموعة ليبية مسلحة، على متن لنش حربي استوقف المركب، على بعد 30 ميلا في عمق البحر قبالة مدينة بنغازي، والتي تبعد 450 كيلومترا غرب مدينة طبرق، التي وقع فيها حادث الغرق، واقتادوا الصيادين إلى أحد سجون بنغازي، واعتدوا عليهم بالضرب والإهانة.
وقبل أن يخلوا سبيلهم، أخذ المسلحون منهم مبلغ 380 ألف جنيه مصري، وجرّدوهم من الأسماك التي اصطادوها، ثم أفرجوا عنهم، مقابل أن يغادروا السواحل الليبية إلى قريتهم التي تبعد مسافة 1100 كيلومتر عن مدينة بنغازي، لكن المركب غرق بهم في طريق عودتهم قبالة مدينة طبرق الليبية، بسبب سوء الأحوال الجوية وارتفاع الأمواج وشدة الرياح.
برج مغيزل
قرية برج مغيزل، هي أحد قرى مركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ، شمال مصر، تطل على البحر المتوسط في أقصى شمال غرب المحافظة، وتبعد عن مدينة كفر الشيخ مسافة 150 كيلومتراً، ويقطنها 18 ألف نسمة، يعمل 95% منهم بمهنة الصيد، وهي أقدم قرية مصرية عرفت هذه المهنة، وتملك ثُلث مراكب الصيد في مصر. وبالرغم من هذه الثروة، يعاني أهالي القرية من أعلى معدلات الإصابة بالأمراض الكلوية والالتهابات الكبدية، وطفح مياه الصرف في الشوارع.
موارد متاحة
تطل قرية برج مغيزل على مزرعة لصيد الأسماك تُسمى "بركة غليون"، وهي أكبر مزرعة سمكية في أفريقيا، تتعدى مساحتها 26 ألف فدان، وتعود ملكيتها للدولة، وأسماكها ذات جودة عالمية من القاروص والدنيس، بالإضافة إلى البلطي والبوري، ووصل أعلى إنتاج للمزرعة إلى 200 ألف طن في سنة 1978.
وكان أهالي قرية برج مغيزل والقرى المجاورة، يتكسّبون من الصيد في المزرعة السمكية، مقابل رسوم سنوية يدفعونها إلى الهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية، وهي هيئة حكومية تختص قانونا، منذ إنشائها بالقرار الجمهوري رقم 190 لسنة 1983، بتنمية الثروة السمكية وتنظيم الصيد في المزرعة وفي عموم المصايد المصرية، بما لديها من خبراء وضعوا مصر في المركز الأول على مستوى القارة الأفريقية، والثامن على مستوى العالم في مجال الاستزراع السمكي.
ورغم هذه الموارد، يسافر أبناء القرية مئات الكيلومترات خارج مياه مصر الإقليمية، للصيد في المياه الليبية والتونسية، ويتعرضون لحوادث متكررة من الغرق والاعتقال، ومصادرة المراكب بما عليها من أسماك، حتى أصبحت تُعرف بالقرية "المنكوبة"، لتكرار حوادث غرق أبنائها في البحر المتوسط قبالة سواحل ليبيا وتونس، ولا يكاد يخلو بيت فيها من فقيد أو مفقود، ولكن لهذه المعاناة أسبابها.
عسكرة المزرعة
في بداية 2015، قرر الجنرال عبد الفتاح السيسي إنشاء الشركة الوطنية للاستزراع السمكي والأحياء المائية، وألحقها بجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، الذراع الاقتصادية للقوات المسلحة. وفي منتصف 2015، اقتطع محافظ كفر الشيخ، أسامة عبد الواحد، بأوامر من السيسي كما يدّعي، مساحة 3 آلاف فدان من مزرعة "بركة غليون" المملوكة للدولة، لصالح الشركة الوطنية للثروة السمكية التابعة للقوات المسلحة، وذلك لاستخدامها في مشروعات الاستزراع السمكي.
وفي يونيو 2016، اقتطع الجنرال السيسي مساحة 2719 فدانا إضافية من المزرعة بالقرار رقم 270/2016، وذلك لاستخدامها في مشروعات الاستزراع السمكي التي تنفذها الشركة. وفي يوليو 2016، اقتطع الجنرال السيسي، للمرة الثالثة، مساحة 6174 فدانا إضافية من المزرعة لصالح الشركة، بالقرار رقم 313/2016.
وفي ديسمبر 2017، أوصى الجنرال السيسي، بضم المزرعة كاملة، 27 ألف فدان، إلى مشاريع القوات المسلحة، بحسب ما أعلنته صحيفة الأهرام الحكومية في 27 ديسمبر 2017، وبدون قرار تخصيص.
ثم قامت الشركة التابعة للقوات المسلحة بتطويق المزرعة بسور وكاميرات مراقبة، ومنعت الصيادين من الصيد فيها، وحولت المزرعة إلى منطقة عسكرية، يحظر على الصيادين في قرية برج مغيزل الصيد فيها أو الاقتراب منها، شأنها في ذلك شأن كل المناطق العسكرية في مصر.
وبالرغم من اعتراف رئيس الشركة الوطنية للثروة السمكية، اللواء حمدي بدين، اعتبار القرى المحيطة بالمزرعة ضمن "القرى الأكثر فقرًا"، ووعوده المتكررة بتشغيل الشباب في المزرعة، لكنه في الحقيقة يحرمهم من حقهم في الصيد من المزرعة التي عاشوا من خيراتها عشرات السنين.
القرية المنكوبة
في فبراير 2015، احتجزت السلطات الليبية والتونسية 91 صيادًا في مدن زوارة ومصراته وسرت، وجميعهم من قرية برج مغيزل وقرية الجزيرة الخضراء المجاورة لها. وفي أغسطس 2015، غرق 32 صيادا من أبناء القرية، برج مغيزل، كانوا على متن مركب صيد غرق بهم قبالة سواحل ليبيا أيضًا، وعلى متنه 36 صيادًا، غرق 32 صيادًا ونجا 4 صيادين منهم فقط. وفي مايو 2016، غرق 8 من أبناء القرية كانوا على متن مركب صيد غرق بهم قبالة ساحل مرسى مطروح وعلى متنه 8 صيادين، غرق 7 صيادين ونجا صياد واحد فقط.
وفي يناير 2017، اعتقلت السلطات التونسية 16 صيادًا من قرية برج مغيزل، في ميناء جرجيس بصفاقس، بتهمة الصيد في المياه الإقليمية. وفي ديسمبر من نفس العام، تعرّض 80 صياداً من شباب قرية برج مغيزل للغرق قبالة السواحل الليبية، وتمكن لانش إيطالي من إنقاذهم، وتوجه بهم إلى السواحل الإيطالية، وغيرها من الحوادث المتكررة بين الغرق والاعتقال.
حادثة يناير، إذن، ليست عارضة لأول مرة، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة. وسيظل حرمان شباب قرية برج مغيزل من حقهم في الصيد في مزرعة بركة غليون يدفعهم إلى السفر والصيد قبالة سواحل ليبيا وتونس، ليتعرضوا للاعتقال والغرق، في حوادث تضاعفت أعدادها بعد استيلاء الجيش على المزرعة.
هجرة غير شرعية
يُسوق السيسي نفسه لدى الاتحاد الأوروبي شرطيًا يحمي شواطئه من طوفان الهجرة غير الشرعية، ويحصل مقابل هذا الدور على مساعدات مالية سخية، قال سفير الاتحاد الأوروبي، إيفان سوركوش، إنها بلغت 1.5 مليار يورو، دفعها الاتحاد منذ تولّي السيسي الحكم حتى منتصف 2017، بالإضافة إلى نصف مليار يورو سيدفعها الاتحاد إلى مصر ضمن اتفاقية 2017/2020، هذا غير 11 مليار يورو هي جملة مساعدات ومنح وقروض من دول الاتحاد منفردة، لنفس الغرض، وهو معالجة أسباب الهجرة غير الشرعية المنطلقة من مصر إلى أوروبا، ولم يكن يسمع عن هذه الأموال أحد، حتى أعلن عنها سفير الاتحاد.
في المقابل، تكشف إحصائيات منظمة الهجرة الدولية عن أن مصر احتلت المركز الأول في الهجرة غير الشرعية للأطفال عبر البحر المتوسط، حتى 2016، وسجلت المنظمة هجرة 2000 طفل من مصر إلى إيطاليا وحدها في 2014، وزادت في عام 2015 إلى 2600 طفل، وأعلنت السلطات الإيطالية عن زيادة هذه الأعداد في 2016 إلى 2500 طفل، وهو ما أقرته وزيرة الهجرة وشؤون المصريين في الخارج، نبيلة مكرم، وقالت إن قرية برج مغيزل هي المُصدِر الأول لهذه الرحلات غير الشرعية.
مستقبل القرية
إذا كانت الشركة الوطنية للثروة السمكية قد نجحت مؤقتًا في منع مراكب الهجرة غير الشرعية من الانطلاق من سواحل برج مغيزل خلال 2017، إلا أن هذا النجاح ليس استراتيجيًا، لا سيما أن شباب القرية مستمرون في السفر للصيد في المياه الليبية، وحوادث غرقهم واعتقالهم مازالت تتكرر، وآخرها الحادث الذي نحن بصده.
في الماضي، ركب البحر المتوسط 40% من شباب القرية، من أجل الهجرة أو الصيد، وقضي ثُلثُهم، على أقل تقدير، حتفه في مياه شواطئ أوروبا أو ليبيا. ولا يخلو ميناء ليبي أو تونسي، طوال الوقت، من مركب صيد مصري محتجز، إلا ويكون من قرية برج مغيزل، أو يكون على متنه من أفراد طاقمه واحد من أبنائها. ويبدو أن مستقبل أطفال قرية "برج مغيزل" سيكون امتدادًا لماضي آبائهم الحزين، ما لم تعُد مزرعة "بركة غليون" إلى صياديها، ويعود الصيادون للصيد فيها.