باربارا وفيروز بصوت التونسية درصاف

11 اغسطس 2015
صورة من العرض المسرحي، موقع مهرجان أفينيون العالمي
+ الخط -
أرادت التونسية درصاف حمداني المزج بين قامتين غنائيتين؛ واحدة مشرقية والأخرى غربية. ولعلّها أصابت في الاختيار، فمن غير السيدة فيروز يستطيع التعبير عن هوية مشرقية قِوامها تضافر الطبيعة الخلابة ونقاء الإنسان البسيط؟ ومن غير الأخوين الرحباني تغزّل بنحو غير مسبوق بأسماء الشهور وفق موسيقى لعلّها لم توضع إلا لتناسب صوت الديفا اللبنانية الذي ينوس بين أنغام البيانو ورجفات أوتار كمان ملائكي؟ ها هي درصاف تصدح بصوت جميل ومعبّر بـ"طلّ وسألني إذا نيسان".
وحيال صوت فيروز وأغانيها وحضورها الآسر الذي نحفظه عن ظهر قلب، اختارت درصاف من الضفّة الفرنسية، فالأبيض المتوسط يجمع الشرق والغرب، باربارا المغنية والمؤلفة الموسيقية والشاعرة الفرنسية والممثلة (1930 -1997)، ذات الصوت المتدفق عاطفةً ورقةً، باربارا التي أمّنت لنفسها جمهورًا طويلًا عريضًا عبر أغانٍ أضحت من كلاسيكيات الأغنية الفرنسية مثل: "قل متى سترجع؟" و"الصقر الأسود" و"أجمل قصص حبي".
كان الهدف المعلن من مشروع الجمع بين المغنيتين المشرقية والغربية إقامة نوعٍ من الحوار بين الصوتين القادمين من ضفتّي المتوسط؛ الشمالية لأهل بلاد الغال، والجنوبية لأهل المشرق.
ولم يكن إنجاز المشروع أمرًا يسيرًا، إذ إن فكرة الجمع التي بدت برّاقة للجميع، حملت عند التنفيذ مصاعب شتّى، فكيف تتم المواءمة بينهما؟ لجأت درصاف إلى الفرنسي دانييل ميل Daniel Mille من أجل الإدارة الموسيقية للعرض، وقد نجح ميل بإقامة تقارب شاعري وحساس ومرهف وصادق بين فيروز وباربارا.
اعتمد ميل على موسيقيْين تونسييْن وآخر فرنسي عارف بالموسيقى المتوسطية. واستند إلى التشويق، ذلك أن المستمع لن يكون قادرًا عند بدء انسياب الموسيقى أن يعرف أهي أغنية فيروزية مشرقية، أم فرنسية غربية؟ لجأ دانييل إلى "تفكيك" القطع الموسيقية واختيار آلات موسيقية بعينها؛ فالوتريات حاضرة، عودًا وكمان، والأكورديون وآلات الإيقاع تلاعب تلك المسافة العربية في النغم المسماة: ربع الصوت.
نجح العرض في مدّ جسور رقيقة ودقيقة ورهيفة بين فيروز وباربارا، على نحوٍ بقيت المسافة موجودة بينهما وعلى حافّة الاندماج والامتزاج. فلم يكن في بال القائمين على العرض الوقوع في شرك جاهز يقول بانتهاك صوت لآخر. وتعبّر درصاف عن ذلك بقولها: "أردنا الوصول إلى رهافة لا يمكن عندها أن تنتهك واحدة الأخرى".
فباربارا تكشف في أغنيتها الشهيرة "السيدة الداكنة" جروحها في انسياب كريستالي، أمّا فيروز فتنسكب في "أعطني الناي وغني" بجرأة فنية آسرة. وبرغم اختلاف مرجعيتي الصوتين (شرق وغرب) ورجعهما، إلا أن القرابة الروحية بينهما تتبدّى في كل أغنية لهما. أغانٍ اختيرت بعناية للتعبير عن ثقافتين مختلفتين لمغنيتين غامضتين وآسرتين. فمثلما بدت باربارا "غريبة" لدى الجمهور الفرنسي، بسبب اختياراتها الفنية غير المتوقعة أو المألوفة، كذا بدت فيروز في أحايين كثيرة، خاصّة حين أدّت أغانٍ على إيقاعات الجاز والموسيقى اللاتينية.
اختارت المغنية التونسية درصاف من "ريبيرتوار" السيدتين، أكثر الأغاني حميمية وتعبيرًا عن نبضات القلب، وقلق الروح.
وتعدّ درصاف واحدة من أعظم المطربات التونسيات، وتميل باستمرار إلى توسيع عالمها في الزمان والمكان، فقد درست الموسيقى الأندلسية، والموسيقى المشرقية، خاصة في فترة القرن العشرين. تعلّمت الصولفيج الغربي، ولها محاولات في صهر الموسيقى الشرقية مع الغربية، إذ إنها أدّت أغانٍ لأم كلثوم وأسمهان وفقًا لمفهومها في ذلك. كما حصلت على شهادة عالية في علم الموسيقى من جامعة السوربون.
غنّت درصاف أهم المسارح الغربية والعربية كما غنت في الأوبرا المصرية، وتعاونت مع أهم الموسيقيين العرب، كسليم سحّاب، ولها أغانٍ من شعر عمر الخيام.
المساهمون