بابلو ثيرثال: المشي على حافة طنجة

02 اغسطس 2016
تصوير: بيتي مارتينيز
+ الخط -

يروقني أن أستجوب الكتّاب الذين أقرأ لهم، حتى يمكنني أن أتعرّف على عملهم بشكل أفضل، وبابلو ثيرثال (1972) هو أحدهم.

لقد قادني كتابه "دفاتر الحافّة" إلى التعرُف على الكاتب. الحافَّة ذلك الجرف الذي ينظر بوقاحة إلى زُقاق الماء الذي يفصل بيننا، والذي شخص أمامي ذات يوم.

اتَّصلتُ بمؤلّفه عبر الـ فيسبوك، تلك القاعدة الرَّقمية التي هي أكثر من زُقاق، بل هي مُحيط حيث تبحر أرواح دون مَراكب، بقلب مفتوح، باحثةً عمَّن يُلقي إليْها بطَوق النجاة. أفلحتُ في أن أجعله يُرسل إليّ كتاباً عبر صديق، ولو أني أتوفر عليه الآن غير ممهورٍ بتوقيعه. وهذا أمر عالق، وهو يعلم ذلك.

حين غُصتُ في دفاتر الحافّة ارتحلتُ في الزمان. هذا كتابٌ أُلِّفَ ليُقرأَ صباحاً، في الظُّليل، وأن تُغمضَ العينيْن كلَّ مرّة تقلب فيها صفحة. طيلة كل المسير عبر المغرب، الذي كان تارة حقيقياً، وتارة حُلُميّاً، حيث كان الماضي والحاضر يتقاطعان، صِرْتُ صديقةً لويليام س.بورّوز، وبريان جونز، وجاين بولز، وبريون غيسين، ذلك الجيل القاعديّ في سنوات الستينيات الذي كان يعود إلى الحياة في خيال البطل، لكني أحسستني الرفيقة المتخيّلة لبابلو، أجوب إلى جانبه حقائق المغرب، حاضرَهُ الذي يَخفى عن عيون السّياح.

وحدَهُ ثيرثال يعرف تعقيد تلك اللعبة الملغزة وفَكَّها والعودة إلى تعقيدها، بينما يُسافر القارئ مُنذهلاً إلى الوراء وإلى الأمام، في فلاشباك يقطع عليك نفسك. بابلو ثيرثال قارئ جيّد، يعرف ما يعنيه الانتهاء إلى الصفحة الأخيرة، ويعرف أنه هناك لا شيء بعد، وأنّ القارئ يجد نفسه أمام الهاوية، واقفاً على جرف، أي على حافّة، وأنّه يرغب في المشي حيث لا ممشى فحسب. ثيرثال، في نظري، هو أفضل من كتب عن الواقع المغربي بعد محمد شكري.

* أنا سعيدة جداً كوني قرأتك وأحاورك. وُلِدتَ في مدريد سنة 1972، ونلت الإجازة في الحقوق، وخصَّصتَ الأيامَ الأولى من حياتك العملية لأنشطة مالية. ما غيَّرَ وجهَتَك، فتركتَ كلَّ شيء واخترتَ مصائر "غيرَ أكيدة"؟

هذا سؤال بسيط، لكنّ الإجابة عنه معقَّدة. أعتقد أن تغيير الوجهة هذا كان شبيهاً بحال المرء عند الاستيقاظ بعد ليلة شرابٍ، حدثَ لي أن أحسست بشبه قنبلة توقظ فيّ الرغبة في الهروب إلى الأمام، واحتجتُ إلى السفر نظراً لإحساسي المفرط بالسأم. أفترض، في الأخير، أنّ المحفّز كان أني في تلك السنوات كنتُ أقرأُ للشاعر خيل د بيدما أكثر من اللزوم، وكان يؤلمني كثيراً قوله "تتفلَّت الحياة منّا بجدّية/ ونشرع متأخّرين في الانتباه إلى ذلك". ومع ذلك، وفي ما يخص ما أشرتِ إليه من مصائر "غير أكيدة"... فأنا أشكرك على ما بين علامتي التنصيص، لأني أعتقد أنه لا شيء "غير أكيد" من الاستمرار مشدوداً إلى رفاهية الأريكة المزيَّفة في الصالون، وإلى كرسي المكتب.

* يُعرَف عنك أنّك كاتبٌ "هائم على وجهه"، وأنك سافرتَ عبر مدن حميمة جداً وأخرى مهجورة. ما البلد الذي ترك أثره فيكَ من بين كل البلدان التي جُبتها؟

كلُّ بلد يُزار يترك بصمة فيك إن ارتبطتَ بأهله، مهما كان الارتباط قليلاً. أنا سعيد بأن أقدر على التأكيد بأنّ كلّ بلد زرتهُ قد ترك فيّ أثراً عميقاً. وكما كل شيء، فإنّ لذلك جانبه السلبيّ، وأنا إلى اليوم انطبع على بشرتي كثير من البصمات، وأحياناً، أخشى أن أكون قد فقدتُ بصماتي الخاصة.

* عنوان كتابك الأوّل "دفاتر الحافَّة". لماذا اخترت هذا المكان من طنجة عنواناً لكتابك؟

على الرغم من أن الأمر قد يبدو مبتذلاً، فأنا لم أختر مقهى الحافّة، الحافة هي التي اختارتني. فخلال فترة واسعة من حياتي مثَّلت الحافة وطنجة، بالنسبة إليّ، مركز نوازع حيوانية من ذلك النوع الذي يصالحك مع طبيعتك، ومع ما أنت عليه. لم تستطع روايتي الأولى أن تدور حول نطاق آخر. إن طنجة حدّ، والحافة هي حدّ داخل طنجة. وشأن كلّ حدٍّ، فإنها تتضمّن العناصر المحدّدة للاستمتاع والمعاناة. إن ما استمتعتُ به وتحمّلتُه هناك كان يطالِبُ بكلماتي. إضافة إلى أنه لكي لا أراوغ، أؤكّد أني شخص مُتصلّب مهووس بالكذب، وأنّ هنالك أماكن قليلة أسطوريّة جداً مثل الحافّة.

* بعد أنْ جُبتَ المغرب، أيّ انطباع رسخ لديكَ عن ذاك البلد وأهله؟

المغرب من بين تلك النطاقات الجغرافية التي هي بالنسبة إلى من يعشق السّفر يودّ لو يُضيّع الأجندات والبوصلات، فهو بلد يسخرُ من كلّ التوصيات التي توردُها كتب الدليل السياحي. إنه جغرافية تُضلّل الصّور النمطية والأفكار المبتذلة. المغاربة من أكثر شعوب العالَم التي عرفتها إكراماً للضيف. لكن ضيافتهم قد تنقلب إلى رفض شديد إن لم يصل المرء إلى فهم الباعث، وتكون محاولة تمييزها من بين المغامرات الأكثر استهواء التي يمكن خوضها.

* أنت أحد عشاق الموسيقى الجيدة، وفي دفاتر الحافّة، وأنتَ تَبسطُ ذاك بإتقان. حدّثني عن الموسيقى، أيّ معنى لها في حياتك؟

عليّ أن أُعيدَ قراءة فرويد، لأرى إن كنت سأستطيع أن أفهم لماذا لا أتصوّر الحياة من دون موسيقى. أكيد أن للمسألة علاقة بالجنس. فعلاً، لقد فسّر رامبو ذلك في شعره، فالأجساد يُمكنها أن تُصغي إلى بعضها. ما في الأمر هو أنه يمكنني أن أكتب سيرتي الذاتية ناسجاً خيوطاً موسيقية. تنكتب حياتي بأغانٍ، وما أقوم به لاحقاً، عند الكتابة، هو تمتمة بسيطة. ربما كنت أكتب لمجرّد أني موسيقيّ خائب. وللإضافة، فقد ترَكتُ ذلك مكتوباً في مكان ما بقولي: بوسع أغنية أن تنقذ حياتك، شأن كلّ إبداعٍ فنّيٍّ آخر، بالطبع، لكن بشكل فوريٍّ أكبر. يُمكن لبريق أغنيةٍ أن يبهرك منذ لحظة سماعها الأولى، وإلى الأبد.


* ناقدة إسبانية
** ترجمة اللقاء من الإسبانية: مزوار الإدريسي


دلالات
المساهمون