انكشاف "النخبة المدنية" في مصر

22 ابريل 2016
+ الخط -
سقطت نخب "مدنية" عربية كثيرة في اختبار الديمقراطية عقب "الربيع العربي". وكشفت مواقف كثير من رموز هذه النخب، على اختلاف ألوانها ومشاربها الفكرية والأيديولوجية، العطب الذي ينخر في العقل العربي إزاء قضايا كثيرة، كنا قد ظنناها، خطأ، أنها حُسمت، وأصبحت بديهياتٍ، كالانحياز لقيم الديمقراطية والحرية والعدالة والتسامح والمواطنة. وقد اختار بعضها ليس فقط الاصطفاف مع أطراف الثورة المضادة، وإنما أيضاً تبنيها وترويجها. فهذا أحد الأدباء المصريين المعروفين يكتب، قبل يومين في جريدة "المصري اليوم"، من دون استحياء، مدافعاً عن نظام الحكم العسكري في مصر، ومحذّراً، وللمفارقة، من إسقاطه والتخلص منه، بل ومتهماً الشباب الذين خرجوا للتظاهر ضده قبل أسبوع بالـ "قلة المخرّبة". وهو ممن كانوا قد التقوا الجنرال عبد الفتاح السيسي، أخيراً، خلال لقائه مع من يسميّهم الإعلام "رموز الفكر والثقافة". وذاك باحث وكاتب كبير لقبناه يوماً "الأستاذ" لا يدافع فقط عن حكم العسكر، وإنما يعمل لدى أحد أذرعتهم الإعلامية، مهيلاً التراب على تاريخه الطويل في الدراسات السياسية والسوسيولوجية. وتلك سيدة من "رموز الليبرالية" المصرية التي "ناضلت" ضد حكم حسني مبارك، ودعمها "الإخوان المسلمين" أكثر من مرة في الانتخابات البرلمانية قبل الثورة، تشارك، مع غيرها من "رموز الفكر والصحافة والثقافة"، في استجداء العسكر للانقلاب على ثورة يناير قبل حوالي عامين ونصف.
لم يكن "الربيع العربي" اختباراً للحركات الإسلامية فحسب، وإنما أيضاً لخصومهم من الليبراليين والعلمانيين واليساريين الذين انتفضوا وتمرّدوا على حكم الإسلاميين. ولكن، في مقابل الارتماء في أحضان العسكر الذين ركلوهم بعدها، وتركوهم، فلا هم عادوا إلى مواقعهم معارضين للسلطة، ولا هم التحقوا بها، أو أخذوا نصيبهم منها. مثال ذلك ما حدث مع أحد الباحثين المعروفين الذي ظل ينادي، عقدين، بدمج الإسلاميين في الحياة السياسية، وتفيض كتاباته بمديح "الإخوان" ومنهجم السلمي المعتدل، لكنه كان في الصف الأول لمن طالبوا بالانقلاب عليهم، بل وشارك في تبييض وجه الانقلاب والتنظير له داخلياً وخارجياً. والآن، يتحسر على ذلك في مجالسه الخاصة، من دون أن يجرؤ على الاعتراف بخطئه أو البوح بنقده النظام العسكري. والقائمة طويلة، وأصبحت معروفة للجميع.
وكانت الكاشفة عندما احتشد الآلاف للتظاهر قبل أسبوع، لم يجرؤ أي من "رموز الفكر والثقافة والإعلام والبحث" على تأييد المتظاهرين، أو مشاركتهم مطالبهم. بل على العكس خرج بعضهم كي يحذر من خطورة "الانقلاب على السيسي". وبدأوا في إطلاق صيحات تحذيرٍ من "انهيار البلاد" إذا قامت "ثورة جديدة". بل ذهب بعضهم بعيداً، حين ادّعى أن ثمة مؤامرة يجري الإعداد لها داخل بلاط النظام، تمهيداً لإطاحته. بل الأكثر من ذلك هو الصمت المشين لهذه الرموز إزاء الانتهاكات التي يتعرّض لها من هم محسوبون على معسكرهم، وإن لم يوافقوهم في نظرتهم للجنرال وسياساته.
النخبة المدنية، مثلها في ذلك مثل النخبة العسكرية، التي اختطت لنفسها طريقاً بلا عودة، وأحرقت كل "مراكبها" مع الشارع والمجتمع الذي يدفع ثمن أخطائها ومواقفها. ولن يكون سهلاً أن تعود هذه النخبة إلى سابق عهدها، لكي تقود الرأي العام في مصر، أو تشكله بعد أن كانت، هي نفسها، إحدى الأدوات الرئيسية للانقلاب، وتتحمل جزءاً من مسؤولية ما آلت إليه الأمور بعد ذلك. ولا أدري ماذا قد يقول أحدهم لنفسه، وهو ينظر في المرآة، ولا كيف يمكنه أن يعيد ترويج مقولاته وأطروحاته، بعد أن انكشفت، وبدت عورتها على الملأ.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".