انقلاب يناير 1992: 5 ملفات جزائرية عالقة (2/2)

15 يناير 2017
ملفات أزمة الجزائر في التسعينيات لا تزال معلقة(أنطوان جيوري/Getty)
+ الخط -
تمكنت الجزائر، منذ عام 1999، بفعل مسار من التوافقات السياسية والأمنية، من التغلب تدريجياً على تداعيات انقلاب يناير/كانون الثاني 1992، الذي قاده العسكر عبر إلغاء نتائج الدور الأول من الانتخابات التشريعية التي كانت قد جرت في عام 1991 وعدم إجراء الدور الثاني. وقد ساهمت مجموعة من الخطوات في تسريع استتباب الأمن، خصوصاً عبر قانون الوئام المدني الذي سمح بعودة آلاف المسلحين إلى بيوتهم وعائلاتهم، ثم قانون المصالحة الوطنية الذي أقرّ عام 2005، والذي أوجد إطاراً قانونياً لتسوية وضعية المسلحين التائبين وضحايا الإرهاب وعائلات الإرهابيين المقتولين في الجبال في فترة الأزمة. لكن جملة من أثار وملفات الأزمة الأمنية لا تزال معلقة حتى الآن، من دون معالجات سياسية أو قانونية.


7400 مفقود

لا تتوقف منظمات المفقودين في الجزائر عن المطالبة بكشف الحقيقة في هذا الملف الذي يعد الأكثر حساسية من مخلفات الأزمة الأمنية، لارتباطه بممارسات اختطاف وتصفيات خارج إطار القانون. وتوجه عائلات المفقودين ومنظماتهم الاتهامات بهذا الشأن إلى الأجهزة الأمنية. ومنذ سنوات اعتادت أمهات المفقودين وأقربائهن على التجمع كل يوم أربعاء أمام مقر اللجنة الاستشارية لحقوق الإنسان في ساحة أديس أبيا وسط العاصمة الجزائرية، في إصرار على إبقاء هذا الملف مطروحاً.

وتعترف السلطات الجزائرية بوجود 7400 مفقود خلال الأزمة، ولا يزال مصيرهم مجهولاً حتى الآن. صحيح أن السلطات أوجدت لهذه القضية "حلاً قسرياً" عبر قانون المصالحة الوطنية، وفرض فدية تعادل سبعة آلاف دولار أميركي لكل عائلة مفقود، وتسوية وضعيتهم كمتوفين في سجلات الأحوال المدنية، لكن جزءاً من عائلات المفقودين والمنظمات التي تتبنى مطالبهم ترفض هذا "المخرج" القانوني. ويؤكد أحد مؤسسي "فدرالية جمعيات المفقودين"، فروخي عمار، أن "العائلات لا تزال تطالب بكشف الحقيقة ومصير أبنائها المفقودين قبل أية تسوية". ويشير إلى أن "40 في المائة من عائلات المفقودين رفضت التسوية القسرية التي فرضتها السلطة"، والتي منعت في سياق قانون المصالحة الوطنية أية إمكانية لمقاضاة هيئات أو أفراد كانوا يمثلون المؤسسات الأمنية أو العسكرية أو القضائية، وتحملهم العائلات المسؤولية المباشرة أو غير المباشرة عن اختفاء أبنائهم المفقودين.

وتعتقد السلطة أن عمليات الخطف التي حصلت، هي أعمال معزولة من قبل عناصر أمنية. وترى أن فتح هذا الملف، على نحو يتيح المحاسبة والمساءلة، قد يغرق البلاد في دوامة من المشاكل والأحقاد ويثير المنظمات الدولية المهتمة بالعدالة الانتقالية، وقد يسهم في ضرب إنجاز المصالحة الوطنية، بحسب وجهة نظر السلطة في الجزائر.

معتقلو معسكرات الصحراء 

قضية المفقودين على أهميتها تشكل إحدى القضايا العالقة، إذ من بين الملفات الأخرى توجد قضية المعتقلين في معسكرات الصحراء في تسعينيات القرن الماضي. ولم تتوصل السلطات بعد إلى حل هذه المشكلة. ومعسكرات الاعتقال هي مراكز فتحتها السلطات كخطوة احترازية لمنع تفاقم الأوضاع أو تمرد شعبي بعد إعلان حالة الطوارئ في البلاد عقب إلغاء الانتخابات عام 1991 ووقف المسار الانتخابي.

وضمت هذه المعتقلات في الفترة الممتدة بين عامي 1991 و1996، أكثر من 18 ألف شخص من دون أي اتهامات أو محاكمات. وترفض السلطات تعويض الآلاف من ضحايا الاعتقالات الإدارية في التسعينيات. وبعض المعتقلين نقلوا إلى معسكرات في منطقة رقان التي تعاني من أثار إشعاعات نووية بفعل التفجيرات النووية التي أجرتها فرنسا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي في المنطقة. وأدى ذلك إلى إصابة عدد من المعتقلين بأمراض سرطانية بفعل هذه الإشعاعات. ويعد المعتقل السابق، نور الدين بلميهوب، أحد أبرز المدافعين عن حق المعتقلين في التعويض والحصول على العلاج وتحمل الدولة مسؤولياتها تجاههم. وهو نفسه أصيب بأمراض عدة بفعل اعتقاله السابق. وفي عام 2011، وجّهت تنسيقية معتقلي منطقة رقان بالصحراء الجزائرية، رسالة إلى الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، لمطالبته بالتدخل لحل قضيتهم العالقة والتي لم تدرج لا في تدابير قانون الوئام المدني عام 1999، ولا في تدابير المصالحة الوطنية عام 2005، على الرغم من أنهم ضحايا الأزمة. ويطالب المعتقلون السابقون بسنّ قانون خاص أو نص تكميلي يحفظ حقوقهم وتسوية وضعيتهم بصفتهم من ضحايا المأساة الوطنية.

المطرودون من وظائفهم


ملف آخر عالق من رواسب الأزمة الأمنية، يتعلق بالمطرودين من وظائفهم بسبب انتمائهم إلى الحزب الإسلامي المنحل، "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، أو بسبب اتهامهم بالتعاون مع مجموعات مسلحة. وفي تسعينيات القرن الماضي، سرحت السلطات الآلاف من الأشخاص من وظائفهم، لا سيما في قطاع التعليم، ما تسبب بتعقيدات اجتماعية كبيرة.
وفي أعقاب قانون الوئام المدني عام 1999، والمصالحة الوطنية عام 2005، تجاوزت السلطات هذا الملف ورفضت إعادة المطرودين من عملهم إلى مناصبهم، بسبب عدم توفر الوظائف، أو لكون المؤسسات التي كانوا يعملون فيها اختفت من الخريطة أو تمت خصخصتها.
صحيح أن المفتي السابق لـ"الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، الكاتب الروائي، عيسى لحليح، نجح في العودة إلى التدريس في جامعة جيجل شرقي الجزائر، شأنه شأن عدد محدود من الأفراد الذين تمكنوا من العودة إلى مناصبهم أو الحصول على مناصب مشابهة لمناصبهم السابقة، لكن هذا استثناء اقتصر على عدد قليل من الأشخاص.

"أطفال الجبل"

أما أكثر الملفات الإنسانية تعقيداً فيتمثل في ملف ما يعرف بـ"أطفال الجبل". وهم أطفال ولدوا في الجبال ومخيمات تمركز المجموعات المسلحة، وكانوا نتاج هروب عائلاتهم والتحاقها بالمجموعات المسلحة، أو نتاج زواج قسري بين مسلحين وبنات مختطفات. وتقدر السلطات عدد هؤلاء الأطفال بأكثر من 500 طفل. وتتفاوت تعقيدات ملفاتهم، إذ ترفض السلطات الجزائرية تسجيلهم في سجلات الأحوال المدنية إلا بأحكام قضائية بالنسبة للأطفال الذين لا يزال أمهاتهم وأباؤهم على قيد الحياة، لكن عدداً من هؤلاء الأطفال تظل حالاتهم معقدة بسبب وفاة الأب في الجبال، ما يحتاج إلى إثبات النسب عبر تقنية "الحمض النووي" (دي أن إيه). وفي المقام الثالث توجد حالات أطفال ولدوا في الجبال نتيجة زواج مختطفات مع أكثر من مسلح في الجبال، ما يعقّد من محاولة إثبات نسبهم، على الرغم من بعض الجهود التي تقوم بها هيئات مهتمة بالموضوع لتسوية كامل الحالات القائمة.

ومنذ عام 2006، يطالب عدد كبير من الجزائريين، ممن يعتبرون أنفسهم ضحايا الخسائر الاقتصادية للأزمة، بشملهم بقانون المصالحة الوطنية عبر تعويض خسائرهم الناتجة عن الأزمة. وعدد من الجزائريين من سكان الأرياف تم تخريب منازلهم من قبل الجماعات المسلحة. كما تعرضت بعض المزارع والمؤسسات الإنتاجية للتخريب خلال الأزمة. ولم يحصل أصحابها على أية تعويضات مالية أو جبائية مع أنهم توجهوا بتقارير ورسائل إلى الحكومات المتعاقبة منذ عام 2006 وإلى الرئيس بوتفليقة، دون أي جدوى، اذ لم تقترح السلطات أي منفذ لتسوية هذا الملف. وسبب تقاعسها يتمثل في أنها تتخوف من أن أي خطوة في هذا الاتجاه قد تفتح الباب واسعاً أمام مطالبات مماثلة، فضلاً عن غياب آليات تقنية وقانونية للتحقق من كون هذه الخسائر الاقتصادية مرتبطة بشكل مباشر بالأزمة.

إعادة الحق بالنشاط السياسي 

وليست هذه الملفات وحدها ما تم القفز عليه خلال مسار من التوافقات السياسية والمجتمعية في سياق معالجات آثار الأزمة الأمنية. لكن ملفاً بالغ الحساسية يطرح نفسه بين الفترة والأخرى، كجزء رئيس من أسباب الأزمة في أصلها. يتعلق الأمر بعدم إعادة الحق السياسي لناشطي وقادة "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، التي تم حلها في مارس/آذار 1992، وباستمرار منعهم من النشاط السياسي. ويعتقد القيادي في الحزب المحظور، كمال قمازي، أن أي مصالحة وطنية لا تأخذ بعين الاعتبار إعادة الحق إلى أصحابه واعتراف السلطة بالحق السياسي لـ"الجبهة"، هي مصالحة مبتورة وتقفز على حقائق الواقع السياسي، بحسب تعبيره. وترفض السلطة السماح لهذه "الجبهة" ولقياداتها بالعودة تحت أي باب إلى المشهد السياسي، على الرغم من وجود كتلة شعبية داعمة لها. وكانت آخر المحاولات من قبل قيادات سابقة في "جبهة الإنقاذ" لتأسيس حزب سياسي باسم "حركة الصحوة"، ومحاولة القائد السابق لـ"الجيش الإسلامي للإنقاذ" تجميع كوادر "الجبهة" تحت إطار تنظيمي موحد.

إلا أن مسار الوئام المدني والمصالحة الوطنية نجح في ترسيخ الاستقرار الأمني نسبياً في الجزائر، وأتاح للبلاد التفرغ لإعادة البناء والتوجه إلى إصلاح البنى التحتية وتطوير القطاعات المنتجة وحل المشاكل الاجتماعية المزمنة كالعمل والسكن والتعليم والصحة، وإعادة الجزائر إلى المحافل الدولية والدور العربي والإقليمي. لكن هذا المسار لم يمح بشكل كامل مخلفات أزمة عنيفة، حفرت جراحاً عميقة في الحياة الاجتماعية والسياسية الجزائرية.