وتزامنت استقالة بن جديد مع قرار سابق له، يقضي بحلّ البرلمان وإجراء انتخابات برلمانية مسبقة، ما يعني شغور منصب رئيس البرلمان الذي كان يمكن أن يحلّ دستورياً مكان الرئيس لفترة 60 يوماً. بالتالي، نجح مدبّرو الانقلاب العسكري على المسار الديمقراطي والانتخابي، في توفير كامل شروط الشغور التي تتيح لهم الاستيلاء على الحكم، لكنهم كانوا بحاجة إلى ظهير سياسي وجدوه في عدد من الأحزاب السياسية العلمانية وهيئات مدنية تدّعي الدفاع عن الديمقراطية. وقد أسست تلك الأحزاب ما عُرف حينها بـ"لجنة إنقاذ الجزائر". كما كان الانقلابيون في حاجة إلى شخصية سياسية مرجعية وتاريخية لترؤس المجلس الأعلى للدولة، ووجدوه في الزعيم الثوري محمد بوضياف، الذي استقدمه الجيش من منفاه في المغرب، في 26 يناير 1992، قبل أن يُغتال على يد أحد حراسه في 26 يونيو 1992.
لكن عدداً من الشخصيات السياسية الديمقراطية، رفضوا الاعتراف بالواقع السياسي الجديد، وحذّروا من التداعيات الوخيمة التي يقود إليها قادة المؤسسة العسكرية بقيادة وزير الدفاع حينها الجنرال خالد نزار، ورئيس الأركان الجنرال الراحل محمد العماري، وجهاز الاستخبارات بقيادة الفريق محمد مدين (أحاله الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في 13 سبتمبر/أيلول 2015 إلى التقاعد).
وفي تلك الفترة تمرّد الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، الحزب الأول للسلطة على سلطة الأمر الواقع، عبد الحميد مهري، رافضاً الاعتراف بالانقلاب العسكري، وانحاز إلى المسار الديمقراطي والمعارضة. وانخرط في مسارات المطالبة بالحوار السياسي والعودة إلى الشرعية. كما كان من موقّعي وثيقة عقد روما، التي انتهى إليها اجتماع أحزاب وقوى المعارضة عام 1995، ما دفع قيادة الجيش والاستخبارات إلى التخطيط للانقلاب عليه داخل الحزب، وهو ما تمّ في مؤتمر عام 1996.
بدوره، رفض القائد الثوري حسين آيت أحمد عرضاً من قادة الجيش لرئاسة المجلس الأعلى للدولة، لكنه رفض الانخراط في لعبة العسكر، ووصف ما حدث بـ"الانقلاب". كما رفض الرئيس الراحل أحمد بن بلة دعم انقلاب العسكر، منحازاً إلى المسار الديمقراطي وإلى ما وصفه "صف المعارضين لاغتصاب إرادة الشعب". من جهته، يرى الإعلامي سليم صالحي، الذي كان يدير حينها صحيفة "العالم السياسي" اليومية، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "عصبة قررت في 11 يناير 1992 ممارسة الوصاية على الشعب باستعمال القوة، فاتخذت قرارها المتهور لتوقيف المسار الديمقراطي في الجزائر والضغط على الرئيس الشرعي الشاذلي بن جديد، وإدخال البلاد في دوامة حرب دفع ثمنها الشعب وقواه الأمنية والعسكرية غالياً". ويشير إلى أن "غرض العسكر حينها، خلاف ادّعائهم، لم يكن الحفاظ على الديمقراطية أو النظام الجمهوري، بل كان غرضهم من ذلك الاستيلاء على الحكم والبقاء فيه ليس إلا".
وينوّه صالحي إلى أن "هناك جملة من الأسئلة المعلقة بشأن تلك الفترة، بحكم الكلفة الدامية للانقلاب وعودة المسار الديمقراطي الصحيح إلى الجزائر بفعل ذلك، ما يتطلب مساءلة المسؤولين عن ذاك القرار الانقلابي بحكم حجم الخسائر التي لحقت بالجزائريين وبالبلاد جراء الانقلاب".
كما يلفت إلى الكلفة الكبيرة التي تحملتها الجزائر خلال عقد التسعينات، بسبب قرار وقف المسار الانتخابي، ففضلاً عن "العطب السياسي والديمقراطي وتخريب الاقتصاد الجزائري واغراق البلاد في الديون، وحجم التمزق المجتمعي والآثار النفسية التي أفرزتها الأزمة، فإن الكلفة البشرية كانت كبيرة جداً".
ويكشف صالحي أن "الأرقام الحقيقية عن إجمالي ضحايا الصراع، تشير إلى سقوط ما بين 120 إلى 200 ألف قتيل، و7400 مفقود، وربع مليون جريح ومتأثر من الحرب، وأكثر من 20 ألف معتقل في محتشدات الصحراء لعناصر الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلّة. كما خسر نصف مليون عامل وموظف وظائفهم. وبلغت الخسائر المادية نحو 50 مليار دولار، وتمّ تخريب 40 ألف مؤسسة إنتاجية، وآلاف المدارس والمؤسسات التعليمية المعطلة وآلاف النازحين من القرى إلى المدن طلباً للأمن".
في عام 1997 وجد قادة الجيش أنفسهم في مواجهة العنف المسلح وتوسع نشاط الجماعات المسلّحة، فضلاً عن تراكم المشاكل الأمنية والسياسية والاقتصادية، وتفاقم المشاكل الاجتماعية ووقوع البلاد رهينة في يد صندوق النقد الدولي والمديونية، كما أُخفقت محاولات الحوار مع قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة، الذين كان بعضهم في السجون. وفرض هذا الواقع على قادة الجيش والاستخبارات إطلاق مسار بديل والتوجه إلى الجبال لمقابلة قادة التنظيمات المسلحة، وكان الجنرال الراحل إسماعيل العماري، الرجل الثاني في جهاز الاستخبارات، قد أطلق إشارات إيجابية باتجاه قائد الجيش الإسلامي للإنقاذ، الذراع العسكري للجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة، مدني مزراق، عبر وسطاء مقربين من الإسلاميين. وبعد مرحلة اكتساب الثقة وجد الجنرال العماري نفسه وجهاً لوجه مع مدني مزراق في معسكر لهذا الأخير. لم يضع مزراق السلاح من كتفه حتى في لحظة استقباله لضيفه، الذي جاءه أعزل من كل سلاح. تكررت اللقاءات بين الطرفين وأفضت إلى اتفاق بين الجيش وتنظيم الجيش الإسلامي للإنقاذ، انسحب أيضاً على مجموعات مسلّحة أخرى، بينها رابطة الدعوة والقتال بقيادة علي بن حجر، يقضي بوقف القتال وتجميع عناصر هذه التنظيمات في مخيمات محددة معروفة لدى قوات الجيش.
وأفضى كل ذلك إلى قانون الوئام المدني، الذي عُرض في استفتاء شعبي في سبتمبر/أيلول 1999، سامحاً بإنهاء جزء كبير من الأزمة الأمنية وتحقيق استقرار أمني نسبي، لكن معضلات قانونية ظلّت معلقة، خصوصاً ما يتصل بالملفات القضائية للمسلحين التائبين وعائلات المفقودين والمسلحين المقتولين في المواجهات في التسعينات وغيرها. وهو ما دفع بالسلطة وبوتفليقة إلى تطوير هذا القانون إلى قانون المصالحة الوطنية، الذي أقرّ عفواً قضائياً ملغياً كل المتابعات القضائية في حق المسلحين العائدين من الجبل، وتسوية الوضعية القانونية في سجلات الوفاة، والحالة المدنية بالنسبة للمفقودين والمسلحين المقتولين، وتقديم تعويضات مادية لعائلاتهم.