وكشف رئيس أقليم كردستان العراق، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود البرزاني، عن نيته اللجوء إلى تقديم طلب رسمي للأمم المتحدة وبعض الدول التي وصفها بـ"الصديقة"، لحل ملف استقلال الإقليم، مشبهاً إجراءات الانفصال بالإجراءات التي قام بها جنوب السودان كي يحصل على استقلاله.
الدعوة إلى الانفصال من قبل البرزاني ليست الأولى، ولكنها جاءت هذه المرة والأوضاع الجيوسياسية للعراق والإقليم والمنطقة والعالم مختلفة تماماً عن السابق، ما فتح الباب أمام تأويلات عدة لدوافع هذه الخطوة الكردية.
خلال ترؤس المالكي للحكومة السابقة، لوّح رئيس الاقليم مرات عدة بالاستقلال، كلما وصلت العلاقة بين أربيل وبغداد إلى طريق مسدود. وكان الشعور السائد يفيد بأن تشهد مرحلة تسلم رئيس الحكومة الجديد، حيدر العبادي، زمام السلطة في العراق، جواً من التوافق بينهما، وخصوصاً في ظل الضغوط الأميركية التي مورست على "التحالف الوطني" لتشكيل حكومة وحدة وطنية تمثل جميع مكونات الشعب العراق وتسعى إلى تنفيذ مطالب هذه الأطراف.
ويدافع الأكراد عن قرارهم بأنه جاء لعدم جدية حكومة العبادي، في حل القضايا العالقة بين بغداد وأربيل، التي استمرت خلال فترات الحكومات المتعاقبة منذ غزو العراق في 2003.
وفي مقدمة هذه القضايا تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي، التي تنص على تطبيع الأوضاع في المناطق المتنازع عليها مع بغداد، وتعويض المتضررين وإجراء إحصاء سكاني في هذه المناطق، قبل إجراء استفتاء حول انضمامها إلى إقليم كردستان.
هذه القضية وبعض القضايا الأخرى العالقة بين بغداد وأربيل، مثل قانون النفط والغاز وحصة الإقليم من ميزانية العراق، وعدم دفع مستحقات العاملين في الإقليم، الذي جاء بقرار من المالكي، دفع بالساسة الأكراد إلى منح العبادي مدة زمنية لا تتجاوز ثلاثة أشهر، كشرط أساسي للمشاركة في حكومته. ولكن يبدو، من خلال تتبع تصريحات الساسة الأكراد، أن خلافاتهم مع بغداد تتعدى القضايا العالقة السالفة الذكر، فهي هذه المرة خلافات مع العبادي، وتحديداً مع "التحالف الوطني" الذي رشّح العبادي لمنصب رئاسة الوزراء.
ولا يزال الوزراء الأكراد يعلقون مباشرة مهام أعمالهم في حكومة العبادي، معللين ذلك بأن اختيار الأخير للوزراء الأكراد تم من دون استشارة قياداتهم السياسية.
ولتفادي تعقيدات هذا الخلاف، وافق العبادي على طلب حزب البرزاني، بإجراء تغيير في مناصب مرشحيه في الحكومة الاتحادية، إذ طلب الحزب استبدال منصب روز نوري شاويس، كوزير للمالية، بمنصب نائب رئيس مجلس الوزراء بدلاً من هوشيار زيباري، الذي تسلم منصب وزير المالية في الحكومة الاتحادية.
كما تدلّ تصريحات الساسة الأكراد على وجود خلافات أخرى مع العبادي وشركائه، ومنها الخلاف حول نسبة تمثيل الأكراد في الحكومة، والتي يطالب الأكراد بألا تقل عن 20 في المائة، أي على غرار حصتهم في تشكيلة الحكومة السابقة.
ترفض بعض الأطراف العربية في العراق خطوة الإقليم وتصفها بـ"الانتهازية"، لأنها جاءت بعدما شعر الأكراد بإمكانية زوال خطر "داعش" عن الإقليم، في ضوء التقدم الذي أحرزته قوات "البشمركة" ضد مسلحي التنظيم في الأيام الأخيرة، وفي ظل الحماية المكثفة التي يوفرها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة للإقليم.
ويقرأ مراقبون تصريحات البرزاني، بأن"الاستفتاء على استقلال الإقليم ومحافظة كركوك أمر لا رجعة عنه"، وأن الفرصة مؤاتية للانفصال، بعد أن باتت كركوك، الغنية بالنفط، وبعض المناطق المتنازع عليها مع بغداد، تحت سيطرة قوات البشمركة، على إثر انسحاب القوات العراقية منها لعدم قدرتها على مواجهة مسلحي "داعش" في يونيو/حزيران الماضي.
قد يكون هذا دافعاً وراء اتخاذ الإقليم هكذا خطوة، إذ وصل إلى قناعة بأن العبادي، حتى ولو كان صادقاً بتنفيذ وعوده بالتفاوض حول المناطق المتنازع عليها، ليس بمقدوره التفاوض حول الكثير من المناطق، نظراً لعدم سيطرة الحكومة المركزية عليها، وإنما هي تحت سيطرة "داعش". كما يرى الأكراد أن تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي، بات غير قابل للنقاش من قبل معظم الأطراف العراقية العربية، السنية والشيعية، على حد سواء.
كما يعتبر حقوقيون، أن انفصال الأكراد في هذه المرحلة، خطوة غير قانونية، لأن قرار مجلس الأمن الدولي الأخير حول العراق، الرقم 1278، أكد على وحدة العراق. كما يرفض هؤلاء تصريحات البرزاني حول إمكانية الانفصال وبشكل مشابه لانفصال جنوب السودان بأنها غير دقيقة لأن انفصال الأخيرة كان مبنياً على اتفاق مسبق بين الخرطوم وجوبا.
ويصف بعض الساسة العراقيين، وخصوصاً من داخل "التحالف الوطني"، خطوة حكومة الإقليم بأنها "استفزازية"، معتبرين إياها محاولة من الأكراد لرفع سقف مطالبهم والحصول على أكبر ما يمكن الحصول عليه من تنازلات خلال مفاوضاتهم مع بغداد. ويبدو أن تلويح الأكراد بالانفصال للحصول على تنازلات ومكاسب من حكومة العبادي، أمر غير مستبعد، نظراً لصعوبة تحقيق الانفصال في المرحلة الحالية. وتشير تحركات وتصريحات الساسة الأكراد، وخصوصاً أعضاء الحزب "الديمقراطي"، المهيمن على حكومة كردستان، إلى أن الأكراد وافقوا على الاشتراك في حكومة العبادي على مضض وبضغوط من الولايات المتحدة، المنهمكة حالياً بالقضاء على "داعش" في العراق وسورية، والتي ترى في خطوة الانفصال عائقا أمام هدفها للقضاء على التنظيم.
وفي رد على إعلان البرزاني عن قراره إجراء الاستفتاء، قالت وزراة الخارجية الأميركية، السبت الماضي، وعلى لسان مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، آلن باترسون، إن "الولايات المتحدة ترفض استقلال إقليم كردستان عن العراق، وتدعم كلياً وحدة الإراضي العراقية"، مؤكدة أن "قضية داعش باتت تطغى على السياق العام".
وتعترض الولايات المتحدة والدول الغربية الحليفة على قيام دولة كردية مستقلة حالياً، وخصوصاً إذا جاء ذلك بإعلانٍ أحادي، ومن دون موافقة بقية الأطراف العراقية والإقليمية، التي يراهن التحالف عليها في المساعدة للقضاء على "داعش". فدول التحالف الغربية غير قادرة بمفردها على الدفاع عن حدود الدولة المستقلة التي ينشدها الإقليم، في ظل رفض شعوبها نشر قوات برية، ولضعف أداء القوات العراقية وافتقار قوات المعارضة السورية إلى التسليح.
على الصعيد الإقليمي، قد يتسبب تشكيل حكومة كردية مستقلة بمشاكل كبيرة، قد تزعزع استقرار دول في المنطقة، ولا سيما تركيا وإيران، اللتين تخشيان أن يؤدي استقلال الأكراد في العراق إلى دفع أقلياتهما الكردية إلى المطالبة بالاستقلال أيضاً. وجاء الرفض التركي الأخير لتقديم يد المساعدة إلى أكراد سورية في قتالهم ضد داعش في مدينة عين العرب، لخشيتها من أن تفضي سيطرة أكراد سورية على هذه المدينة إلى استقلال الأكراد في نهاية المطاف.
عربياً، لا تؤيد الدول العربية إعلان الدولة الكردية، بسبب تخوفها من احتمال أن تشكّل حلفاً مع إسرائيل، التي أعلن رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، عن دعم بلاده لاستقلال كردستان، معتبراً أن ذلك "يعزز التحالف بين قوى الاعتدال في المنطقة".
ويعتبر الانقسام بين صفوف الأحزاب الكردية الرئيسية من أهم العقبات التي تواجه إعلان انفصال الأكراد في الوقت الحالي. وتخشى هذه الأحزاب من خسارة بعض المكتسبات، وتأجيج صراعاتٍ بينها، في حال أعلن الاستقلال في هذه المرحلة. ومن المعروف أن الحزب "الديمقراطي" الكردستاني هو من أشد المتحمسين للاستقلال، فيما لا يبدو منافسه، حزب "الاتحاد الوطني"، مقتنعاً بالفكرة.
وفي مؤشر واضح على بروز الخلافات بين الحزبين الكرديين الرئيسيين، هدد حزب "الاتحاد" قبل أسبوعين، الحزب "الديمقراطي" بفض الشراكة بينهما على خلفية تفرد الأخير بالقرار.
وعلى الرغم من دعم حركة التغيير، بزعامة نشوروان مصطفى، فكرة الاستقلال، إلا أنها تخشى أن ذلك قد يفضي إلى سيطرة عائلتي الزعيمين الكرديين، البرزاني وطالباني، على مؤسسات الدولة، وتوجه الحكم في كردستان إلى الحكم الشمولي.
في كل الأحوال، يبقى أكراد العراق الرابحين الوحيدين من تأزم الوضع الأمني في العراق، وفي ظل الدعم الذي يوفره لهم التحالف الغربي في إطار حملته للقضاء على "داعش". وتأجيل حلمهم بإقامة دولتهم المنشودة لا يعني أن تحقيقه بعيد المنال.