في المقابل، لا يبدو أنّ من نفّذ انقلابات مسلحة عدة ضدّ الحكومة في فترة وجيزة، يكترث للدعوات الداخلية والخارجية التي تحاول ثنيه عن إشعال مزيد من الحرائق، فبدلاً من العودة إلى المربع الأول، والإعلان عن الاستجابة للدعوة السعودية، يمضي "الانتقالي الجنوبي" نحو الهدف الذي رسم له بدقة، حاملاً شعار "ليس لدينا ما نخسره"، كما أفصح عن ذلك عدد من قيادات الصف الأول في "المجلس".
وفي محاكاة حرفية للتجربة الحوثية في الانقلابات وبناء التحالفات الخارجية، لجأ "الانتقالي الجنوبي" إلى موسكو ليشرح لها مبررات الخطوة التي أقدم عليها، و"الأساس المنطقي" وراء إنشاء الإدارة الذاتية، وفقاً لبيان صادر عن الخارجية الروسية مساء أول من أمس الثلاثاء.
وكشف البيان، أنّ رئيس "المجلس الانتقالي" عيدروس الزبيدي، هو من طلب مهاتفة نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، من أجل أن يقدّم "تقييماً للتطورات العسكرية والسياسية والإنسانية في جنوب اليمن". وزعم الزبيدي خلال الاتصال أنّ الخطوات التي تمّ اتخاذها كان الهدف منها "حلّ مشاكل الناس في عدن"، في إشارة للفيضانات التي ضربت المدينة قبل أيام. بدوره، عبر نائب وزير الخارجية الروسي عن تطلعه إلى إيجاد حلول للقضايا العالقة في البلاد، من خلال حوار شامل، وبمساعدة المبعوث الأممي لليمن مارتن غريفيث.
مع العلم أنّ مصادر مقرّبة من قيادة "المجلس الانتقالي الجنوبي" الانفصالي، كانت قد كشفت لـ"العربي الجديد" في شهر مارس/آذار الماضي، أنّ دولة الإمارات العربية المتحدة، التي دعمت تأسيس المجلس، تعزّز من خطوط التواصل بين وكلائها في الأخير وبين المسؤولين الروس، في محاولة لإيجاد قنوات مستمرة، على غرار ما فعلته مع اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا، وذلك في إطار الاستعداد لمواجهة أي خطوات قد تتخذها السعودية ضدّ حلفاء أبو ظبي على خلفية رفض تطبيق اتفاق الرياض.
ولم يتوقف تصعيد "الانتقالي" عند ذلك، إذ أعلن فجر أمس الأربعاء، عن عقد الاجتماع الأول لـ"لجنة الإدارة الذاتية"، ومناقشة مشروع خطة عملها والآلية الخاصة بعملية الرقابة والإشراف والمتابعة للمؤسسات والمرافق الحكومية، والتي سيتم إسنادها لفرق متخصصة من الكفاءات والشخصيات الإدارية والنقابية المشهود لها بالنزاهة، حسب بيان صحافي صادر عنه.
ووفقاً للبيان، فقد تمّت إحالة مشروع الإدارة الذاتية للجنة القانونية في "الانتقالي" لمراجعته وصياغته وإعادته للإقرار والتنفيذ. كما تمّ فتح الباب أمام إمكانية توسيع أعضاء الفريق الاقتصادي والاستعانة بالكوادر والكفاءات الاقتصادية والمحاسبية لتسهيل عمل الفريق.
ويبدو "الانتقالي" جاداً في المضي بإجراءات الإدارة الذاتية. وفي السياق، قالت مصادر لـ"العربي الجديد"، إنّ توجيهات صدرت بالفعل بمنع التحويلات النقدية من عدن إلى أي محافظات يمنية أخرى، فضلاً عن مراقبة الأموال التي يتم سحبها من البنك المركزي، فيما لوّح مقربون من المجلس، بوقف صرف مرتبات الموظفين في المحافظات الشمالية، باعتبار أنّ تلك الأموال من إيرادات عدن وهم أولى بها.
وحتى الآن، لا يزال مصطلح "الإدارة الذاتية" مجرّد لغز في الشارع اليمني، لا تُعرف على وجه التحديد حدوده القانونية والسياسية، فيما انتقد موالون لـ"الانتقالي" هذا التعبير، وقالوا إنه يمثّل تراجعاً عن مطلب أشمل وهدف أكبر هو الحكم الذاتي الذي يعدّ مفتاحاً لتقرير المصير، منتقدين كذلك التنازل إلى الإدارة الذاتية والاكتفاء بالإشراف في ظلّ حكومة الشرعية.
وحسب عضو لجنة صياغة الدستور اليمني، ألفت الدبعي، فإنّ "الإدارة الذاتية هي أقرب لأداء السلطة المحلية الحالي في إطار علاقة المدينة بالمركز، ومفهومها يختلف عن الحكم الذاتي الذي يتطلّب غالباً سلطات إدارية وسياسية وتشريعية وتنفيذية خاصة، وهذه غالباً تكون في إطار النظام الفدرالي، وهو ما تضمنته مسودة الدستور اليمني الجديد للنظام الفدرالي القادم لليمن".
وقالت الدبعي، وهي أستاذة علم الاجتماع في جامعة تعز لـ"العربي الجديد" إنّ "ما طرحه المجلس الانتقالي عبر بيانه كان أقرب إلى الإدارة الذاتية منه إلى الحكم الذاتي، إذ أعلن أنّ المؤسسات سوف تظلّ كما هي بمن فيها، وفي إطار علاقتها بالمركز، وإنّ ما سيقوم به أقرب للرقابة الموازية لأعمال كل مؤسسات الدولة وتقييمها وتحسين الأداء فيها".
ووفقاً للسياسية والباحثة اليمنية، فإنّ "خطوات الانتقالي استمدها من كونه سلطة أمر واقع، وبحسب ما يقول، نتيجة تفويض شعب الجنوب له سابقاً، وهو الأمر الذي ظهر عكسه من خلال بيانات الرفض لتوجهات الانتقالي، وإعلان ستّ محافظات تنديدها ببيانه، بما يدل على عدم وحدة مكونات الجنوب".
ويبدو أنّ "الانتقالي" قد بدأ بتصفية الحسابات باكراً مع المحافظات التي أعلنت رفض البيان الذي صدر عنه، إذ حشد المئات من أنصاره في المكلا (عاصمة حضرموت) للتأكيد على أنّ حضرموت جنوبية، رداً على بيان محافظها فرج البحسني. كما بدأ بتأجيج الأوضاع في جزيرة سقطرى ومحاولة السيطرة على معسكرات الجيش الوطني الموالي للشرعية.
ويؤكد خبراء أنّ تفكك المحافظات الجنوبية سيخلق تناقضات وصراعات أوسع، سينعكس تأثيرها سلباً على أداء مؤسسات الدولة، وهو ما سيؤدي إلى فشل أكبر لـ"الانتقالي"، خصوصاً في ظلّ الواقع السيئ لمؤسسات الدولة الحالية التي تحتاج لمزيد من الاستقرار والتركيز على عملية الإصلاح الإداري فيها.
وبخصوص أنسب الحلول لنزع فتيل التوتر الحاصل، رأت الدبعي، أنه "بناء على التعقيدات السابقة، سيكون من الضرورة أن تتعاطى الحكومة الشرعية مع تقديم البند الخاص بتعيين محافظ ومدير أمن لعدن بالتوافق مع الانتقالي، والذهاب إلى تشكيل حكومة جديدة مصغرة متوافق عليها يشارك فيها الانتقالي بممثلين من أجل أن تتم عملية ممارسة الإدارة الذاتية عبر مؤسسات الدولة، وبما يجنب البلد مزيداً من التشظي". وأضافت: "بالإمكان أيضاً أن تعمل الشرعية، وعبر المؤسسات التشريعية، على تفويض صلاحيات كبيرة للسلطات المحلية، بما يمكّنها من إدارة وضع المحافظات بفاعلية أكبر. فإذا لم تأخذ الأمور مساراً حوارياً إيجابياً، قد تتطور إلى تصعيد أخطر باتجاه مطالب الحكم الذاتي، وهذا يتطلب تمثيلا سياسيا وتشريعيا خاصا وسيكون أكثر سلبية على مؤسسات الدولة".