سجلت مدن عراقية محررة انتهاكات واضحة تورّطت بها قوات عشائرية وفصائل محلية من أبنائها، تضمّنت عمليات اعتقال "مزاجية" وابتزاز وتسلّط، مروراً باستخدام الشتائم والرصاص الحي خلال تجوالهم في دوريات بين المنازل، وانتهاءً بتدخلهم في ملف عمليات الإعمار وملف التوظيف والتعيين بالدوائر الحكومية. وخلال الأسابيع الماضية توالت شكاوى مواطنين من مدن الموصل والبعاج والقيارة وربيعة والشرقاط وتكريت والرمادي وهيت وحديثة والقائم، كشفت عن قيام مجموعات من "الحشد العشائري"، المنتمية لعشائر الجبور وشمر وعامر والبو فهد والبو ذياب والجغايفة والعبيد وقبائل أخرى، بتشكيل فصائل مسلحة خاصّة بها لمقاتلة تنظيم "داعش" خلال احتلاله المدن في شمال العراق وغربه.
وبحسب مواطنين من تلك المناطق، فإن "الانتهاكات كثيرة، وغالبيتها ترتبط بتضييق الخناق على الحريات الشخصية، بالإضافة إلى الضرب والإهانات في نقاط التفتيش والابتزاز للحصول على أموال، وليس انتهاءً بمنع المحاصيل الزراعية من المرور إلى قرى ومدن عدة من دون الحصول على ضريبة أو حصة مالية من المحاصيل، وهي ما تُعرف محلياً بالخوة". وأكدوا أن "تجاوزات الحشد العشائري وصلت إلى المحاسبة على ملابس المواطنين، إذ يتدخل بعض العناصر في نقاط التفتيش في قرى محافظة صلاح الدين بتوبيخ الشباب على ملابسهم وعلى طريقة قصّ شعرهم، ولا ينتهي الأمر عند ذلك، إنما بتدخلهم أيضاً بعمل الدوائر والمؤسسات الحكومية والتدخل بالتعيينات وحتى المقاولات، عبر الدخول على خط فرض مقاولين ومستثمرين بقوة السلاح على الجهات المحلية".
وأكد محافظ نينوى السابق أثيل النجيفي، حصول الانتهاكات في مدن المحافظة، ومنها الموصل والبعاج، مشيراً في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أن "قوات من الحشد العشائري لا تعرف التزاماتها داخل المدن ولا تعي حقوق المواطنين، وسلوكها ينبع من خلفيتها العشائرية التي تعتمد على الأعراف أكثر مما تعتمد على القانون الذي يجب أن تطبقه". وأوضح أن "القادة العسكريين والأمنيين في هيئة الحشد الشعبي على علم بهذه التجاوزات على المواطنين، ولكن يبدو أن القرار العسكري بشأن مصيرهم ما زال صعباً، بسبب الفراغات الأمنية في تلك المناطق والحاجة لهؤلاء المسلحين".
وأضاف أن "عناصر الحشود العشائرية في محافظات البلاد غير مدربين على التعامل مع المواطنين المدنيين، وهم بحاجة إلى تأهيل كامل وتدريب كي يكونوا قادرين على التعامل بما يناسب وضع المدن أو إخراجهم بشكل كامل، وتوكيلهم بالمناطق النائية والصحراوية لحمايتها، وترك قوات نظامية من جيش وشرطة داخل المدن لأنها تدربت بما يكفي على التعامل مع المواطنين". ولفت النجيفي إلى أن "الحشد العشائري في مدينة الموصل غير مرغوب فيه من قبل أهل المدن، وأن الحاجة إليه تكمن في مناطق أطراف المحافظة والأرياف، مثل مناطق الجزيرة وبادية الجزيرة، لا سيما أن الإرهابيين يتخذون منها ملاذات آمنة، وعلى هؤلاء المسلحين حماية تلك المناطق، وترك المدن".
وفي صلاح الدين، منعت مجموعات من "الحشد الشعبي" و"الحشد العشائري"، عبر نقاط تفتيش على الطرق الرئيسية، مرور البضائع والمواشي والمحاصيل الزراعية من المدينة إلا بعد دفع أموال من التجار إلى العناصر المسلحة، حسبما كشف النائب السابق شعلان الكريم. وأضاف الكريم لـ"العربي الجديد"، أن "الانتهاكات تمارس منذ سنوات وتحديداً بعد عمليات التحرير التي قادتها القوات العراقية ضد تنظيم داعش، تحديداً في المناطق التي أوكلت مهام حمايتها بعد التحرير لفصائل تدعي انتماءها للحشدين العشائري والشعبي". ولفت إلى أن "محافظ صلاح الدين ورئيس مجلس المدينة، بالإضافة إلى عدد من المسؤولين أبرقوا لنائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، بالإضافة لرئيس مجلس الوزراء على اعتباره القائد العام للقوات المسلحة، لشرح ما يجري في المدينة، إلا أن الاستجابة كانت أقل من المطلوب". أما في كركوك، وتحديداً في المناطق العربية، فسيطر "الحشد العشائري" على أراضي النازحين الذين لم تتوفر لهم فرص العودة لديارهم.
في السياق، أفاد ضابط بالجيش في مدينة الحويجة، لـ"العربي الجديد"، بأنه "أوكلت لقوات الحشد العشائري حماية الحويجة بعد تحريرها، ولكنهم يسيطرون الآن على موارد هذه الأراضي، الزراعية تحديداً، ويمنعون من يقترب منها، وتعود أكثرية هذه الأراضي إلى نازحين لم يعودوا إلى المدينة حتى الآن". وأوضح أن "الحشد كان عاملاً إيجابياً في استتباب الأمن في المناطق المحررة، إلا أنه لم يكن بعيداً عن السياسة، فطبيعة تشكيل هذا الحشد وقيادته العشائرية سمحت لبعض الأشخاص ممن لديهم نفوذ عشائري قوي باستخدام سلطة الحشد بطرق غير قانونية، وأدت إلى ظهور كثير من الانتهاكات والسلوكيات السلبية، متمثلة باعتقال مدنيين بحجة انتمائهم لتنظيم داعش، وتعيين أقارب قياديين بالحشد العشائري بالوظائف التي أصبحت شاغرة والتي فُصل من كانوا يتولونها من قبل الحكومة لانتمائهم للتنظيم. وقد أصبح قياديو الحشد العشائري أشبه بالإقطاعيين".
وبالنسبة للأنبار، كشف القيادي في "الحشد العشائري" طارق العسل، لـ"العربي الجديد"، أن "الإساءة للمواطنين موجودة، وحدثت في أكثر من مرة، من قبل عناصر تابعين للحشد العشائري، ونحن لا نقبل بها، سواء كانت من العشائر أو الشرطة أو الجيش، وبإمكان المواطنين تقديم شكواهم إلى مراكز الشرطة". وأكد في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "الكثيرين من العناصر المسيئين تمت محاسبتهم، وبعضهم فُصل من الحشد، لأسباب تتعلق بانتهاكات لبعض العائلات التي لم تخرج من المدينة خلال احتلال داعش لها، واتهامهم بأنهم كانوا ضمن صفوف التنظيم".
إلى ذلك، فسّر الخبير الأمني عبد الله العيثاوي، لـ"العربي الجديد"، أن "الانتهاكات التي تمارسها مجموعات من الحشد الشعبي والحشد العشائري، ليست جديدة، بل بدأت منذ أول أيام التحرير، إذ تعمل هذه القوات على وتر واحد، وهو أنها صاحبة الفضل في طرد تنظيم داعش. بالتالي فهي تمارس الانتهاكات والتجاوزات تحت سلطة القانون، وهناك تعتيم إعلامي على هذه الحوادث، خصوصاً أن بعض المواطنين يخشى الكشف عن الانتهاكات ضده، فذلك قد يكلفه حياته". وأضاف أن "الحكومة العراقية تتحمّل مسؤولية أي انتهاك يحصل ضد أي مواطن، فهي بشكل يومي تعلن عن أن هذه الحشود تابعة لها وتعمل تحت إمرتها. مع العلم أن بقاء هذه القوات داخل المدن لم يعد ضرورياً، ولا بد من إعادة الملف الأمني للشرطة المحلية حصراً، ويكون وجود عناصر الحشد على الحدود مع الجيش".