انتقال في الزمان قبل المكان: لماذا يهاجر الشباب العربي؟

22 يونيو 2020
وراء مستقبل غامض (Getty)
+ الخط -

الهجرة، هي حركة أصوات المهمّشين والراحلين مشحونة من الصراخ المكبوت في زمن يحتاج فيه الإنسان لتغيير المكان. يُهاجِر البشر، فتدخل مجتمعات المُهاجَر منها والمُهاجَر إليها في علاقات اجتماعية جديدة. يجد فيها المُهاجِر نفسه في زمن جديد، يحاول استعادة ماضيه وذكرياته في مكان يطلب منه إيماءات وإشارات التخلّي عن الماضي والاستعداد للحاضر والمستقبل وفق شروط علاقات القوّة في المجتمعات المضيفة.

في موضوع الهجرة، أصدر "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" حديثًا كتابًا بعنوان "لماذا يهاجر الشباب العربي؟ بحوث في إشكاليات الهجرة والمستقبل" لمجموعة من المؤلّفين. يتوزّع العمل على سبعة أقسام تتفرّع إلى ثلاثة وعشرين فصلًا؛ لكن يصعب عرض ومناقشة فصول متنوّعة في المواضيع من هذا الكتاب، لذلك سنكتفي بتناول القسمَين الثاني والثالث؛ واللذان يركّزان على المُهاجر العربي في أوروبا.

اعتمادًا على معطيات كمّية، يجد محمد الخشاني في الفصل الرابع، "هجرة الشباب العرب إلى دول الاتحاد الأوروبي: قراءة نقدية في السياسة الأوروبية للهجرة" أنَّ الرأي العام الأوروبي حسّاس اتجاه قضية الهجرة، وهو ما يتطّلب اعتماد بيداغوجيا للإقناع بضرورة الهجرة وفوائدها ومخاطبة معارضي الهجرة ومساءلتهم عن أحوال بلدهم دون الهجرة، وكذلك التركيز في الخطاب الإعلامي على فوائد الهجرة بدلًا من الجوانب السلبية. ثمّة إشكالية في هذا الطرح، فهو يقوم على علاقة مصلحية بين المُهاجِر والمجتمعات المضيفة، ويبتعد عن حقّ الإنسان في تغيير المكان ومجمل قضايا حقوق الإنسان. ماذا يحدث لو تغيّرت شروط هذه العلاقة المصلحية بينهما؟

في ذات السياق، يسلّط بشير سرحان قروي الضوء في الفصل الخامس، "قوانين الهجرة الانتقائية في دول الاتحاد الأوروبي وآثارها في المهاجرين العرب" على كيفية اختيار بعض الدول الأوروبية لنوعية المهاجرين إليها، ويصفها بالسياسات الاستعمارية الجديدة. كما يقارن بين تجارب بعض الدول العربية والدول الأخرى بالاستفادة من مهاجريها في الغرب.

توحي استخلاصات ونتائج البحث بمركزية رمزية للدول الأوروبية، حيث تعطي الدراسة أو العمل في أوروبا قيمة مضافة للتأهيل العلمي والمهني للعرب. على الرغم من جودة التعليم في أوروبا وتقدّمه في الكثير من الأحيان على المؤسّسات التعليمية العربية، لكنه ليس ضروريًا لتأهيل الكوادر العربية؛ فالجامعات العربية مليئة بالطاقات البشرية التي تكافح لتغيير الشروط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في العالم العربي. وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأهمية العمل على التطوير الذاتي للمؤسّسات العربية بكوادرها المحلية بغض النظر عن مشاركة المهاجرين في ذلك. إنّ قرار الإنسان باختيار مكان عيشه مسألة شخصية ترتبط به ذاته، وليس لها علاقة بالانتماء الوطني كما ذهب إلى ذلك الباحث في إحدى نتائجه.

ويختتم هذا القسم ببحثَين عن دوافع الطلّاب الجزائريين إلى الدراسة في الخارج؛ حيث يعالج العياشي عنصر ووسيلة عيسات في الفصل السادس، "السعي وراء المستقبل المفقود: لماذا يهاجر الطلّاب الجزائريون؟" العديد من القضايا الجديرة بالمناقشة عن دراسة الطلبة الجزائريّين في فرنسا. وعلى ذات المنوال، تدرس سهيلة إدريس في الفصل السابع "الهجرة الطلّابية بين الرهانات المؤسّساتية ودوافع الطلّاب الدوليين: الطلّاب الجزائريون في فرنسا أنموذجًا".

في الفصل الثامن، "شباب الجيل الثالث للهجرة في بلجيكا - هويات تائهة ومتصدّعة: دراسة حالة حي بورغراوت بمدينة أنفرس"، يقدم محمد سعدي مقاربة متميّزة في الكتاب بناءً على بحث ميداني معمّق، تقوم على البحث في المعنى بأن تكون مهاجرًا، حيث يتناول موضوع التمزّق الهوياتي العنيف الذي يعيشه شباب الجيل الثالث من المهاجرين المغاربة في بلجيكا بتحليله لعلاقات القوّة والهيمنة في المجتمع، وبحثهم عن المعنى والثقة بالنفس في ظل مجتمع يُشعرهم بأنهم آخرون مختلفون عن البلجيكيّين. ويجد بأنه لا مناص من الاعتراف والاهتمام برهانات التعدّد الثقافي والهوياتي في بلجيكا.

وفي الفصل التاسع، "الهجرة المغربية إلى فرنسا (1912 - 1974): أيّ موقعٍ للشباب"، يحاول خالد أوعسو تقديم صورة عن العناصر/ المحدّدات التي صنعت الهجرة المغربية، وعن نماذجها، وعن موقع الشباب ضمن "خرائطيتها".

التهميش الثقافي للمهاجرين العرب في ألمانيا هو ما عالجه زهير سوكاح في دراسته في الفصل العاشر "صورة الشباب العربي اللاجئ في الصحافة الألمانية: مثال مجلّة "دير شبيغل"، حيث حلّل مضمون الصحيفة بين عامَي 2015 و2016، ووجد بأن هناك انشغالاً شبه مطلق بالذات الألمانية وروحها "الإيجابية". وتزامنًا مع هذا التضخيم الخطابي للأنا، لا تكاد تبرز الذات اللاجئة، فهي ذات "سلبية" تابعة للذات الألمانية "الناشطة"، تزعم بأنها أَوَت هذا الآخر "الضعيف والمتخلّف" على الرغم من طباعه "الإرهابية المتخلّفة". تشدد الدراسة على أهمية العامل الثقافي في ممارسة الإقصاء والتهميش في الخطاب الإعلامي.

تختلف الدراسات الواردة في الكتاب فيما بينها في فهم معنى الاندماج الاجتماعي؛ والذي يحتاج إلى ضرورة في فهم إنسانيته في الأدبيات الأكاديمية قبل أن يتسرّب إلى الصحافة والمجال العام. إذ لا يستند معنى الاندماج الاجتماعي على أرقام وإحصائيات كمية، تتعلّق بحجم المساعدات التي تقدّمها الحكومات أو معدّلات الانحراف والتطرّف... إلخ، بل يقوم على أنسنة مفهومه، بربطه بإدراكات نفسية ذات طابع ثقافي، يمكن ملاحظتها بالانخراط الفعلي للمهاجرين في قضايا المجتمع المضيف الكلية وإدراكهم الشأن العام الجامع والمشترك وإدراكهم لبعض محاولات مشروع تهميشهم ثقافيًا؛ والذي قد يبدأ من المراحل التعليمية.

عبر مفهوم العنف الرمزي الخاص بالسوسيولوجي الفرنسي بورديو، نفهم الصلة بين الرموز الاجتماعية وحاملتها السياسات التعليمية، لصوغ أسئلة تنبّه إلى أسس تراتبية الفاعلين الاجتماعيّين في ذلك التصنيف الفكري بين من هم "فوق" ومن هم "دون"، تلك التي يتحوّل بموجبها المهاجر طفلًا جديدًا "كبير السن"، يتلقّى دورات "اندماج اجتماعي ثقافية"، يشعره البعض بأنه أدنى ثقافيًا.

في هذا المشهد يصبح ما سُمّي النجاح في تحقيق "الاندماج الاجتماعي الثقافي" انتصارًا للهيمنة والإقصاء من خلال يوميات العنف الرمزي في التعليم وغيره من المجالات، ويتحوّل المهاجرون إلى تابعين مهمّشين يعيدون إنتاج ثقافة الطبقة السائدة في المجتمع المضيف.

إن هذه الآلية الاجتماعية المعقّدة تعمل على المنظومة السيكولوجية للمهاجرين، كي توجّه خياراتهم نحو اندماج من نوع خاص في المجتمع الجديد. فقد جاؤوا لاجئين، وحماهم المجتمع المضيف. وينبغي أن تجري مرافقة هذا الآخر القادم كي يدخل إلى الحضارة، الحضارة التي يحترم فيها الرجال النساء، ويحبّون بلطف، وتهتم العائلات فيها بأطفالها في تعليمهم وصحتهم وتحترم القانون، كما لو أن المهاجرين دخلوا لتوّهم فجر الإنسانية.


* باحث من سورية

المساهمون