عاش مسلمو فرنسا سنتين قاسيتين بسبب الاعتداءات الإرهابية التي ضربت البلاد، والتي اتهم مسلمون بتنفيذها في الأغلب، بالتزامن مع الحراكات الاجتماعية والعمالية التي خفتت خلال عطلة الصيف، والمرشحة للعودة كما وعدت عدة نقابات وأحزاب، إضافة إلى اشتداد الحملات الانتخابية، بكل ما تحمل من قسوة الخطابات والسجالات.
وجاء اغتيال الكاهن الفرنسي، ليحرّك الرأي العام والطبقة السياسية بدرجة فاقت ما شهدته مع الضحايا الآخرين، ليُدخل على الخط شرائحَ لم يكن يُعرَف عنها من قبل، نفورٌ كبير أو علني تجاه المسلمين، ومن هنا يمكن قراءة البيان الذي أصدره 41 فرنسياً بينهم مثقفون ورجال أعمال وأطباء مسلمون، الرافض لكل أشكال العنف، باعتباره تحذيراً من القادم المجهول.
وتؤكد استطلاعات الرأي تغيّر المزاج الفرنسي، خاصة الكاثوليكي، والذي بدأ يعتقد أن "الإسلام يُشكّل تهديداً"، فقد كانت النسبة سنة 2015 في حدود 33 في المائة، وبلغت في آخر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "إيفوب" الرصينة، 45 في المائة، وهي نسبةٌ يقرأها المتخصصون في مجال استطلاعات الرأي باعتبارها "صدمة لدى السكان" قد تؤدي إلى خلق "توترات".
ويبدي ممثلو الإسلام في فرنسا قلقاً كبيراً من قادم الأيام، ومن بينهم كمال قبطان، عميد مسجد ليون الكبير، الذي لا يخفي قلقه من "دفع المسلمين ثمن ما حصل"، مستحضراً مثال التضييق والتمييز الذي يتعرض له مسلمو جزيرة كورسيكا.
ويدعو عميدُ مسجد بوردو الكبير، طارق أوبرو، إلى التهدئة، وينتقد كل استغلال سياسي ضيّق وقصير الأمد للأمر، يستفيد عن وعي أو لا وعي من الإرهاب، ويرى أوبرو أن العام الجديد للمجلس الحكومي الذي ترأسه الرئيس فرانسوا هولاند، والذي يبدأ اليوم، "مطبوعٌ بالغموض الكامل، سياسياً ودينياً وفي ما يخص قضية الهوية والقضايا الاجتماعية والهجرة".
وستكون عيون مسلمي فرنسا، مُشرَعة أيضاً على نشاط "المؤسسة من أجل الإسلام في فرنسا"، التي وضعت السلطات على رأسها جان-بيير شوفنمان، والتي أعيد تنشيطها لـ"خدمة الإسلام وجعله متناسقاً مع قواعد الجمهورية"، كما يقول شوفنمان، في ظل إجماع مسلمي فرنسا على إبداء الأسف لأنه لم تُعيَّن على رأسها شخصية إسلامية.
وإذا كان كثيرون يحاولون اختزال مشكلة الإسلام في فرنسا في مسألة تمويل المساجد، فإن الشيخ طارق أوبرو يفند الأمر ويشدد على أن "القوانين في فرنسا كافية لمعالجة الأمر، وتتمثل في مراقبة الجمعيات التي تدير المساجد".
ويشكك الشيخ عمار لصفر، رئيس "اتحاد الجمعيات الإسلامية في فرنسا"، في كل الزوابع المُثارة، ويؤكد أن "القول إن تمويل المساجد سيحُدّ من التطرف هو مغالَطة للرأي العام، لأنّ 98 في المائة من تمويل أماكن العبادة الإسلامية هو فرنسي، مسلمو فرنسا هم من يمولون عمليات تشييد أماكن عبادتهم".
وإذا كان مانويل فالس، الذي يُصدرُ، من حين لآخر، خطابات وتصريحات صادمة، خاصة ضد مسلمي فرنسا، يُصرّ على أن الهدف من تنشيط "مؤسسة الإسلام في فرنسا" هو "مساعدة الإسلام الفرنسي على التخلص من الذين يُفخّخونه من الداخل"، فإنه تلقى ردّاً لاذعاً من قبل النائبة في مجلس الشيوخ ناتالي جوليت، عن حزب "الاتحاد الديمقراطي المستقل"، والتي نشرت بمعية أندري ريشاردت، النائب في مجلس الشيوخ عن حزب "الجمهوريون"، في 5 يوليو/تموز الماضي، تقريراً حمل اسم: "من الإسلام في فرنسا إلى الإسلام الفرنسي".
وترى جوليت أن ما يقوله فالس "خطيرٌ"، لأنه "يضع رابطاً مباشراً بين مسلمي فرنسا وتمويل الاعتداءات"، وتشدد على أن "التطرف لا يتمّ في المساجد. هناك الإمام غوغل، وهناك مشاكل مجتمعيّة أخرى، والدولة تتهرب من مسؤولياتها الاجتماعية".
وانتقدت جوليت، في صحيفة لوفيغارو اليوم الإثنين، تعيين مسؤول فرنسي غير مسلم في "مؤسسة الإسلام في فرنسا"، لأنه "وفقاً لقانون 1905، فليس للدولة أن تتدخل في الأمر"، وتكشف النائبة الفرنسية أن نتائج التقرير الذي ساهمت في صياغته، والذي حظي بإجماع سياسي، عدا حزب الجبهة الوطنية، ينصّ على أن مسلمي فرنسا عليهم"أن يُنظّموا أنفسَهُم، في ظل احترام قوانين الجمهورية، كما أن رئيس هذه المؤسسة يجب أن يُنتَخَب من قبل مسلمي فرنسا، وهنا يمكن لجان-بيير شوفنمان أن يكون عضواً في مجلس الإدارة، ولكن ليس رئيساً تنفيذياً، إنها علامة على الوصاية تجاه المسلمين".
واعتبرت النائبة أن من الأولى "خلق المدرسة العادية للأئمة"، لتجاوز قضية تواجُد نحو 315 إماماً من تركيا والمغرب والجزائر، مُنتقدةً توقيع الحكومة الفرنسية لاتفاقات مع المغرب لجلب أئمة، معتبرة إياها انتهاكاً لقانون 1905، وقالت إنها: "مرعوبة" من "ثقل دول- تركيا والجزائر والمغرب- على الإسلام في فرنسا".
ومن جهة أخرى يشدد المفكر الفرنسي هنري بينا-رويز، في صحيفة ليبراسيون، اليوم، على أن "تمويل الدولة لتشييد المساجد ليس سوى خدعة"، لأن "أماكن العبادة ليست قاعات مسرح. إذ لا يكفي أن ندفع ثمن المكان والأوركسترا حتى نفرض الموسيقى. في دولة القانون يتم اللجوء إلى القانون لمنع الانحرافات الأصولية".
وأضاف أن "الأديان تنجز تأقلمها من داخلها وليس عن طريق شراء هذا التأقلم من الخارج. لأن المنطق الذي يقول: ندفع أموالاً حتى نتحكم، يعود إلى الماضي، ولا علاقة له بالتحرر الجمهوري".