انتخابات باريس البلدية: منافسة مرشحتي اليمين واليسار تحسمها التحالفات

15 مارس 2020
تحتدم المنافسة بين اليمين واليسار التقليديين (برتران غاي/فرانس برس)
+ الخط -
بكت أنييس بوزان، قبل ثلاثة أسابيع، عند مغادرتها منصبها كوزيرةٍ للصحة الفرنسية في حكومة إدوار فيليب، لتتسلم مهمتها الجديدة كمرشحةٍ على رأس لائحة الحزب الرئاسي، "الجمهورية إلى الأمام"، لانتخابات باريس البلدية المقررة في جولتين، الأولى تجري اليوم الأحد، والثانية في 22 مارس/آذار الحالي. ولا أحد يعلم إن كانت بوزان قد بكت يومها خوفاً أم فرحاً، بعدما أوكلت إليها مهمةٌ صعبة التحقيق. ففي العاصمة الفرنسية، تحتدم المنافسة "النسائية"، خصوصاً بين اليمين الممثل برشيدة داتي، واليسار عبر عمدة باريس التي تسعى لولاية ثانية، آن هيدالغو. وتعود هذه المنافسة إلى الواجهة في البلديات، مستفيدةً من زخم تراجع حزب الرئيس إيمانويل ماكرون،"الجمهورية إلى الأمام"، الذي لا يزال تطغى عليه صفة "حزب الأقلية"، فيما من المعروف أن اليمين المتطرف لا يدخل بكامل ثقله في معركة العاصمة.

وكان على ماكرون وأغلبيته الحاكمة أن يختاروا سريعاً قبل أسابيع قليلة بديلاً عن مرشحهم الأصلي لرئاسة لائحة "الجمهورية إلى الأمام" في باريس، بنجامان غريفو، الذي أجبرته "فضيحة" فيديو جنسي على الانسحاب من السباق، ووقع الاختيار على الطبيبة والمختصة في علوم الدم، أنييس بوزان، والتي تتحدر عائلة والدها من بولندا. هكذا، لم يكن لدى مرشحة الحزب الرئاسي إلا شهر واحد للنهوض بحملةٍ انتخابية تعاني، في محاولة لانتزاع البلدية الأكثر ثقلاً وأهمية في فرنسا. لكن ما الذي يمكن لبوزان فعله في شهر؟ فالفيديو ذو الطابع الجنسي، الذي أودى بغريفو، أودى معه بعددٍ من نقاط الحزب في الاستطلاعات، المتواضعة أساساً. وفي الواقع، لم يكن حزب ماكرون يحتاج إلى أزمةٍ كهذه، كي يجد نفسه ثالثاً في استطلاعات الرأي، بعدما اعتاد غريفو على هذا الترتيب منذ مطلع العام الحالي، وها هي بوزان تشغله اليوم، خلف مرشحتي اليمين (حزب الجمهوريون) واليسار (الحزب الاشتراكي)، داتي وهيدالغو.

تلك هي الأجواء التي دخلت فيها مرشحة ماكرون الجديدة معركة باريس البلدية. وهي إذ تنتزع نقطتين أو ثلاث نقاط أكثر من غريفو، في استطلاعاتٍ جديدة، فإنها تبقى تراوح بين 17 و19 في المائة من نوايا التصويت، بينما تتنقل كل من داتي وهيدالغو بين 24 و25 في المائة. وتبقى بوزان مثقلةً بإرث ماكرون وسياساته التي لا تروق إلا لأقلية من الفرنسيين، كما بإرثها، كوزيرةٍ للصحة استبسلت خلال التظاهرات والإضرابات التي عرفتها فرنسا نهاية 2019، بالدفاع عن خيارات الحكومة أمام مطالب الآلاف من زملائها القدامى، في ما يتعلق بنظام التقاعد.


ومع ضعف المنافسين الآخرين، من سيدريك فيلاني (7 في المائة)، المنشق عن حزب ماكرون، إلى مرشحة "فرنسا الأبية" (يسار راديكالي) دانيل سيمونيه (4.5 في المائة)، إلى مرشح اليمين المتطرف سيرج فيديربوسك (4 في المائة)، يبدو أن المعركة الانتخابية البلدية في باريس اتجهت لتأخذ صيغتها التقليدية، كمواجهة بين اليمين واليسار. ويؤذن بهذا الاتجاه الصعود التدريجي لمرشحة حزب "الجمهوريون" اليميني، وعمدة الدائرة الباريسية السابعة، رشيدة داتي. فبعدما كانت الأخيرة تراوح بين المركزين الثالث والرابع في استطلاعات نهاية 2019، انتقلت، مطلع العام الحالي، إلى المركز الثاني، وراء عمدة باريس الحالية، آن هيدالغو، المدعومة من قبل حزبها الاشتراكي وثلاثة أحزاب يسارية أخرى، من بينها الحزب الشيوعي. وتُوّج هذا المسار الصاعد بمنازعة داتي لهيدالغو على المركز الأول منذ الشهر الماضي، بل والتقدّم عليها أخيراً في بعض الاستطلاعات الخاصة بالجولة الأولى من الانتخابات، إذ يعطيها استطلاع لـ"هاريس إنترأكتيف" و"إيبوكا" 25 في المائة من نوايا التصويت، مقابل 24 في المائة لهيدالغو.

لوصف هذه القفزة، من 16 إلى 25 في المائة، يفضّل اليمين الفرنسي الحديث عن "ديناميكية داتي". لكن إضافة إلى الشخصية القوية التي تتميز بها ابنة المهاجر المغربي هذه، وعنف المعركة الانتخابية التي تقودها ضد هيدالغو، فإن نجاحها يرتبط بدعم أبرز وجوه اليمين الفرنسي، الذي يحاول النهوض بعد خسارته القاسية في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، وخروجه بفضيحة من رئاسيات 2017. وأهم هذه الوجوه اليمينية الداعمة لداتي، الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي. كما أنها تستفيد من الفراغ الذي يتركه يميناً تراجع حزب ماكرون في نوايا التصويت، ومن ارتداد بعض جماهير اليمين الخائبة عنه، وهو ما يعطيها أفضلية اللعب على أوتارٍ محافظة يطرب لها هذا الجمهور، كمسألة الأمن، من دون أن ينازعها فيها مرشح ذو ثقل.

لكن أغلب الاستطلاعات تقول إن "ديناميكية" داتي قد تصطدم، في الجولة الثانية، بتحالف يساري بين هيدالغو (بين 23 و26 في المائة) ومرشح حزب "الخضر"، دافيد بيّار (بين 11 و13 في المائة). وإن لم تجد داتي دعماً لها، سيكون من الصعب عليها الحشد ضد هذا التحالف. ويبقى أملها الوحيد، لتجاوز اليسار في الدور الثاني، التحالف مع أنييس بوزان، إلا أن هذه الفكرة، التي طرحتها مرشحة "الجمهورية إلى الأمام" أخيراً، تثير انشقاقاً بين أعضاء الحزب الحاكم، الذي يرفض قسم منه تشكيل حلف مع "الجمهوريون". ومن شأن تحالف محتمل كهذا أن يدفع بعض أعضاء حزب ماكرون إلى مغادرة المركب، وزيادة طينه بلّة قبل نحو عامين من الانتخابات الرئاسية، الأمر الذي يدفع الحزب إلى التفكير مرتين قبل الإقدام على خطوة كهذه.

يساراً، ورغم الخيبات التي عرفها الحزب الاشتراكي وشركاؤه في الفترة الماضية، والنقد الذي يوجّه إلى هيدالغو وحصيلتها في إدارة باريس من قبل المرشحين الآخرين، إلا أن العمدة الاشتراكية لا تزال في المقدمة، مدعومةً من اليسار التقليدي (الحزب الشيوعي) ومن تشكيلين يساريين حديثي العهد، هما حركة "جينيراسيون" (أسسها بونوا هامون) وحزب "بلاس بوبليك" الذي يقوده رافايل غلوكسمان والاقتصادي توما بورشيه. وأعطى استطلاع جديد لمعهد "إيبسوس"، نشر الثلاثاء الماضي، 26 في المائة من نوايا التصويت للمرشحة الاشتراكية (في زيادة قدرها نقطة واحدة)، في حين أعطى منافستها، داتي، 23 في المائة.

لا شكّ أن هيدالغو تستفيد من قدرتها هذه على جمع اليسار في قائمة واحدة هدفها منع الحزب الرئاسي و"الجمهوريون" من انتزاع المدينة ذات المليونين و200 ألف ساكن. كما أنها تستفيد من موقعها كعمدة حالية لباريس، خصوصاً أن فرنسياً من أصل اثنين يفضل التصويت، في هذه الانتخابات، لعمدة مدينته أو لشخص يدعمه، بحسب دراسة نشرتها "أوبينيون واي" قبل أيام.

لكن هل ينطبق هذا على باريس؟ يقول أحد المسؤولين السابقين في بلدية باريس لصحيفة "ليبيراسيون"، قبل أيام، إن هيدالغو "عمدة باريس أكثر من كونها عمدة الباريسيين". وقد يكون في هذا التعليق شيء من الصواب. إذ يأخذ كثيرون على هيدالغو تراجع نظافة المدينة في عهدها، وتقلص المساحات الخضراء فيها، وتحوّل بعض أحيائها إلى ورشة أشغال لا تنتهي، ولا تجلب لهم إلا مباني ضخمة جديدة. وكانت مسألة النظافة وتزايد عدد الفئران أحد أكثر الأوتار الحساسة التي ضرب عليها منافسو عمدة باريس، من أقصى اليمين إلى الوسط، في آخر المناظرات التلفزيونية بين المرشحين، التي جرت يوم الثلاثاء الماضي. وإن كان هذا الملف حرياً بخسارة مرشحة اليسار بعض الأصوات يساراً، لكن هيدالغو تستفيد أيضاً من عملها، خلال السنوات الماضية، على بعض الإصلاحات البيئية، كمنع السيارات حول نهر السين، وهي إجراءات تجد صدى لدى جمهور اليسار. ومن إنجازاتها أيضاً إلغاء خدمة "أوتوليب"، التي كانت تملأ شوارع العاصمة بسياراتها، مستبدلة إياها بمشروع لتوسيع مسارات الدراجات الهوائية. ويأخذ عليها منتقدوها أنها لم تنفذ من هذا المشروع حتى الآن، إلا نصف ما وعدت به عام 2014. لكن هذا لم يمنعها من إعادة بناء جزء من برنامجها الجديد حول مشروع كهذا، إذ تعد باستبدال 60 ألف مكان لركن السيارات بمسارات للعجلات الهوائية، في مسعى لتحويل العاصمة إلى مدينة "100 في المائة قابلة للتنقل بالدراجة الهوائية" بحلول 2024. وإذا كان هذا الجانب البيئي من برنامجها سبباً في التفاهم مع "الخضر"، إلا أنه يبدو، في الوقت نفسه، سبباً في تحجيم حظوظ الحزب الأخضر وسحب جزء من ناخبيه المحتملين، خصوصاً الباحثين منهم عن "تصويت مفيد" منذ الجولة الأولى.