اعتمدت السلطات المصرية التعتيم واصطناع الإقبال غير الحقيقي على صناديق الاقتراع، عنواناً عريضاً لتجاوزاتها في إدارة فعاليات وإجراءات اليوم الأول من انتخابات مجلس الشيوخ، التي بدأ الاقتراع فيها داخل مصر أمس الثلاثاء، وينتهي في التاسعة من مساء اليوم. ويأتي هذا السلوك هروباً من السخرية الحتمية من ضعف مشاركة المواطنين في هذا الاستحقاق الذي لا يكادون يعرفون عنه شيئاً، وسيسهم في تشكيل غرفة برلمانية ثانية بلا سلطات أو صلاحيات. ومنذ ما قبل فتح أبواب اللجان على مستوى الجمهورية في التاسعة من صباح أمس، بدأت وزارة الداخلية التي تدير بصورة شبه كاملة هذا الاستحقاق، في منع مراسلي وسائل الإعلام المحلية والأجنبية المعتمدة، بما في ذلك حائزو التصاريح الصادرة عن الهيئة الوطنية للانتخابات، من التواجد في محيط اللجان وداخلها، بشكل عام. كذلك تمّ غلق اللجان العامة على مستوى الجمهورية بالكامل، بعد إعدادها لوجستياً لمرحلة ما بعد الاقتراع وتجميع النتائج، وذلك لمنع التواصل بين وسائل الإعلام والقضاة المشرفين على الانتخابات، والذين يتمتعون باستقلالية نسبية عن الشرطة.
تمّ توجيه العاملين ونقلهم بالحافلات والباصات للتصويت في المناطق الصناعية
وكرّرت وزارة الداخلية بذلك ما فعلته في نهاية الاستفتاء على التعديلات الدستورية في إبريل/نيسان 2019، عندما منعت وسائل الإعلام من تغطية إجراءات غلق اللجان وبدء الفرز تمهيداً لإعلان النتيجة بنسبة إقبال غير واقعية قياساً بما رصده المراقبون. لكن الوزارة أدخلت بعض المحسنات الإعلامية على أدائها هذه المرة، فأرسلت منذ الدقائق الأولى لفتح الاقتراع قائمة محدودة بحوالي 30 لجنة ومجمعاً انتخابياً على مستوى القاهرة الكبرى وبعض المحافظات، إلى مديري القنوات الفضائية ووسائل الإعلام الموالية للسلطة، بحيث تقتصر التغطية على تلك اللجان دون غيرها.
وبزيارة "العربي الجديد" لبعض تلك اللجان وحصولها على صور حيّة من بعضها الآخر، تبين أنها لجان أولتها الداخلية عناية خاصة بسبب وجود بعض الوزراء والمسؤولين السياسيين ضمن الناخبين فيها، كما تمّ حشد عشرات المواطنين من سكان المناطق المجاورة لتلك اللجان للرقص والاحتفال على أنغام الأغاني المؤيدة لرئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي حولها. كما أقدمت إدارة الإعلام في وزارة الداخلية للمرة الأولى، على تصوير وإعداد وإرسال مقاطع جاهزة معدة احترافياً لبعض من تلك اللجان للعرض المستمر على الفضائيات، وبالتالي أصبحت تلك اللجان فقط هي واجهة الاستحقاق بالكامل، مع تجاهل مئات اللجان على مستوى الجمهورية التي لم تشهد نسبة كبيرة منها أي مشاركة حتى لناخبٍ واحد. وقالت مصادر قضائية في الهيئة الوطنية للانتخابات، وغرفة عمليات نادي القضاة، إن نحو 40 في المائة من لجان المدن في محافظات وجه بحري والصعيد، لم يدخلها أكثر من 10 ناخبين حتى منتصف اليوم الانتخابي، واصفةً الاستحقاق الحالي بأنه "الأقل من نوعه منذ عهد الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك".
وذكرت المصادر أن الهيئة الوطنية تلقت شكاوى عدة من المنظمات الأهلية القليلة التي تمّ قبول أوراقها لمتابعة الانتخابات بعد إجازتها أمنياً، بسبب عدم سماح الأمن لممثليها بدخول اللجان، كما تلقت شكاوى مماثلة من بعض وسائل الإعلام العربية، لكن إدارة الهيئة اكتفت بالتواصل مع الأمن لحلّ كل مشكلة بذاتها دون تصعيد.
وأوضحت المصادر أن 17 لجنة في محافظات الفيوم وبني سويف والمنيا لم تفتح أبوابها حتى الساعة 11 ظهراً، وأن أكثر من مائة لجنة على مستوى الجمهورية لم تفتح لجانها في الموعد بسبب مشاكل تنظيمية وابتعاد أماكن تسكين القضاة عن اللجان، نظراً لتقليل عددها وزيادة كثافتها خلال الاستحقاق الحالي، بهدف خفض النفقات.
سمحت وزارة الداخلية بكل أنواع المخالفات الانتخابية
وأوضحت المصادر أن الداخلية سمحت بكل أنواع المخالفات الانتخابية التي يمثل بعضها جرائم تستوجب الغرامة والحبس، مثل وجود المرشحين وأنصارهم وممارستهم الدعاية الانتخابية في محيط اللجان. وحدث هذا مع جميع قيادات حزب "مستقبل وطن" والمرشحين البارزين ضمن القائمة الموحدة، ومنهم رجل الأعمال أحمد أبوهشيمة في بني سويف. فضلاً عن السماح بتوزيع مواد غذائية ووجبات باردة وساخنة على المواطنين لحثّهم على المشاركة في المناطق الفقيرة والريفية، بالقاهرة الكبرى والصعيد، في استمرار لما بدأته بالفعل لجان الدعاية الخاصة لـ"مستقبل وطن" في كل المناطق الريفية بالمحافظات تقريباً قبل التصويت بيومين.
كما رصدت تقارير غرف العمليات، نقلاً عن القضاة، انتشار ظاهرة التصويت الجماعي في لجان الشيخ زايد والمطرية والزيتون ووسط القاهرة بالعاصمة، وعدد كبير من لجان المحافظات، وعلى الرغم من التنبيه النظري على القضاة بعدم السماح بذلك. لكن زيادة عدد اللجان الفرعية عن عدد القضاة المشرفين وإيكال بعضها لإدارة الموظفين، سمح بتحول تلك المحاولات إلى ظاهرة.
وتميزت اللجان الانتخابية في محيط المناطق الصناعية التي بها مصانع خاصة أو عدد كبير من الشركات الحكومية بإقبال ملحوظ أكبر من باقي الدوائر، بسبب توجيه العاملين ونقلهم بواسطة عربات وحافلات للتصويت، مع إعطاء المصوتين نصف يوم إجازة والسماح لهم بالمغادرة لمنازلهم مبكراً. وحدث ذلك في دوائر حلوان والتبين والعاشر من رمضان وبني سويف ودمياط الجديدة وبورسعيد القريبة من التجمعات الصناعية.
ومنذ اقتراح إنشائه، يُتداول في الأوساط الساسية المصرية أن السبب الأساسي لتدشين مجلس الشيوخ هو مكافأة ومجاملة أكبر قدر من الأشخاص الذين يقدمون خدمات للنظام، لاستمرار استمالتهم والسيطرة عليهم، في محاولة لإعادة إنتاج تجربة مجلس الشورى في عهد مبارك. وتخلو المواد المنظمة لمجلس الشيوخ في الدستور المعدل من منحه أي سلطات مؤثرة، بل تستند إلى مجموعة من الألفاظ العمومية والإنشائية الفارغة، ما يعني أن صلاحياته ستكون أقل من مجلس الشورى بعهد مبارك، وتتوقف عند حدود إبداء الرأي لا أكثر. ويعكس ذلك رغبة النظام في تهميش دور هذا المجلس وإبقائه مجرد "مستودع للمجاملات"، على الرغم من أن ميزانيته لن تقل بأي حال عن 600 مليون جنيه (نحو 36 مليون دولار) سنوياً، بالنظر للميزانية الحالية لـ"النواب"، وهي مليار و400 مليون جنيه.