انتباهات غارودي: عن أصولية مدسوسة في العلم

27 سبتمبر 2016
(غارودي عام 1995، تصوير: خافي مارتيناز)
+ الخط -

في كتابه "أصوليات"، خرج المفكر الفرنسي روجيه غارودي (1913 - 2012) عن التفكير في الأصولية كبقعة ضوء مسلّطة على الشرق (والإسلام) حصراً، ليذهب إلى إضاءة أصوليات أخرى منسية، وهو ما يُفرد له فصلاً بعنوان "الأصوليات الغربية"، والتي سيكشف حضورها كنواة في الأصوليات الجديدة، فالأصولية الغربية بعباراته "هي العلة الأولى ثم ولدت كل الأصوليات الأخرى رداً عليها".

يفصّل غارودي أنواعاً من الأصوليات المنبثقة من الغرب (الفاشية، الستالينية، الفاتيكانية، الصهيونية...)، ويشير إلى واحدة باسم الأصولية العِلموية، وهي "أصولية مدّعية كونها تزعم أنها انعكاس شامل للواقع". المغالطة التي يرصدها غارودي هي الخلط بين أمرين مختلفين وإظهارهما كواحد وهما النزعة الوضعية في العلم والعلم نفسه.

هنا لا بد أن نذكر أن غارودي كان طوال مسيرته الفكرية مناهضاً للتيار الوضعي المهيمن على الحياة الأكاديمية والفكرية في فرنسا منذ القرن التاسع عشر، إذ كان يعتبر أن هذا التيار دفع الغرب إلى تعيين نفسه مسؤولاً عن "استعمار" العالم، بحجة تمدينه أو بحجة اكتشافه. كان الاستعمار الفعلي بعد ذلك تجلّياً لعدم القدرة على الاعتراف بالآخر، ومن هنا فهو أصولي بالتعريف.

العمل الذي صدر مطلع تسعينيات القرن الماضي، اهتم وقتها بظاهرة الإسلاموية الجزائرية، والتي كانت تربطها القراءات الدارجة بموجة عودة المحاربين الجزائريين من حرب أفغانستان. يعود غارودي بالتحليل إلى مرحلة الاستعمار الفرنسي الذي أنكر القيم الخاصة بالشعب الجزائري.

هذا الإنكار الأعمى كان يقدّم حجة حقيقية لنشأة تيار أصولي في الجزائر، ومع ظهوره لم يكن نادراً أن تساهم القوة الاستعمارية نفسها في تحريكه. هكذا فالموجة الأفغانية بالنسبة إلى المفكر الفرنسي ليست سوى عامل تغذية فحسب (أفغانستان كانت هي الأخرى أرض اصطدام بين الأصولية الإسلامية والأصولية الشيوعية في آخر أنفاسها).

مع بقاء الخطاب الغربي مُهيمناً على العالم، ظلّت هذه "الأصوليات الغربية لاواعية"، خصوصاً حين يتغلّف هذا الخطاب بالشكليات العلمية. تصدّر باحثو الغرب الحديث عن الأصولية (في الشرق)، دون أن يشعروا بالأصوليات التي يقفون عليها.

وكما أن مصطلح الأصولية (المقرون غالباً بنعت الإسلامية) يجري خلطه بمصطلح الإرهاب، فإن غارودي بعد سنوات نشر كتاباً بعنوان "الإرهاب الغربي" (2004). كان هو نفسه وقتها خارج دوائر الضوء من جرّاء حملات التشويه التي طاولته تحت تهمة معاداة السامية، أي إن الأصوليات كانت تشتغل ضدّه، فهي تفضّل الاشتغال في الخفاء، وإلا فهي أصوليات مفبركة على الأرجح.



المساهمون