في ذلك الزمن، أواخر عشرينيّات القرن الماضي، لم يكن مصطلح "نسويّة" قد بلغ تلك القرية المرابطة في عُرض ذلك الجبل حيث تكثر أشجار الصنوبر والسنديان. تلك المرأة المربوعة التي سكنت وزوجها في أعلى تلك القرية، لم يبلغها المصطلح الذي يعود بحسب المؤرّخين إلى منتصف القرن التاسع عشر.
في منزل حجريّ، هو كناية عن غرفة واحدة كبيرة سقفها عالٍ، كما هي أسقف بيوت ذلك الزمن، استقرّت المرأة بعدما تزوّجت بذلك الرجل الذي لم تحبّه في يوم. ظلّت حتى سنواتها الأخيرة، تخبر حفيدتها كيف أنّها اعتمرت تلك القبّعة البيضاء ولبست ذلك الثوب - لم تذكر في يوم لونه - الذي خاطته بنفسها، ونزلت إلى "الساحل" لتودّع مَن لم يهوَ قلبها سواه. مرّات ومرّات وصفت المشهد بتفاصيله. في الميناء، وقفت بين الجموع وراحت تلوّح له من بعيد بمنديل أبيض طرّزته بنفسها... منديل شبيه بآخر أهدته إيّاه. مشهد كلاسيكيّ تكرّر في مئات الأفلام التي روت الهجرة. أمّا هي فعاشته بكلّ الألم الذي حمله. مرّات ومرّات سردت الجدّة حكايتها للصغيرة، غير أنّها لم تبح قطّ باسم ذلك العزيز ولا كيف تعارفا. حفظت سرّها وسرّه، وإن صار هو "خلف البحر".
تزوّجت المرأة أحد أبناء القرية نفسها، وأسّسا عائلتهما. كان زوجها مكارياً. وفي طريقه، كان يُحضر لها الحجارة، فتعمد هي إلى تفتيتها لتجعل منها حصى يصلح للبناء. وراحا يوسّعان منزلهما، غرفة تلو غرفة. كبر المنزل وكبرت العائلة. أنجبا ستّة أولاد، توفي اثنان منهم. راحت تربّي أولادها، وتُرضِع صغاراً آخرين جفّ حليب أمّهاتهم، وفي الوقت نفسه تُعِدّ الخبز وتحضّر "القاورما" والمونة الشتويّة بأنواعها وتهتمّ بالزرع وبخمّ الدجاج وكذلك بحديقة الأزهار التي نسّقتها بحسب ذوقها وتخيط الثياب - الداخليّة منها كذلك - وتفتّت الحجارة وتنظّم مصاريف العائلة. بقلم رصاص غليظ يشبه ذلك الذي لطالما حيّر الأحفاد، كانت تحسب كلّ شيء على دفتر صغير. بقلم الرصاص الغليظ ذاته، سجّلت على داخل أحد مصراعَي خزانتها تاريخ ميلاد كلّ واحد من الأولاد.
خلال تلك السنين، بينما كانت تؤدّي واجباتها كربّة منزل، على أكمل وجه، لم تعتزل الحياة العامة. لطالما تورّطت فيها. هي عملت على إدخال التيّار الكهربائي إلى قريتها، في منتصف القرن الماضي، وقد أنجزت المهمّة التي أوكلها إليها شقيقها المهاجر. كانت على قدر المسؤوليّة. لم يكن ذلك كلّ شيء. هي كانت تهتمّ بالسياسة كذلك من بين اهتمامات أخرى. وخلال إحدى دورات الانتخابات النيابيّة، نظّمت حملة لأحد المرّشحين. هي باعت مصاغها لتمويلها.
لم تفرح المرأة الناشطة يوماً بولادة فتاة. بالنسبة إليها، حياة الأنثى "شقاء". هذا ما أدركته حفيدتها في النهاية، بعدما كانت قد حنقت عليها... فصارت قادرة على تفهّمها. واليوم، في الثامن من مارس/ آذار، سلام لروح امرأة لم يبلغها قطّ مصطلح "نسويّة".