بملامح بورجوازية ونظرات ضحوكة وعبارات جاذبة، أعلن زعيم حزب "سيريزا" اليساري الراديكالي اليوناني، أليكسيس تسيبراس (41 عاماً)، عن ولادته السياسية في 25 يناير/كانون الثاني الحالي، في أكثر أيام اليونان تاريخيةً بعد انتهاء الزمن العسكري (1967 ـ 1974).
"سنستعيد كرامتنا". هكذا صرخ تسيبراس، بين أنصاره، ليل الأحد. وسط الأعلام الحمراء التي ارتفعت في أثينا، يريد الرجل تغيير مسار بلاده المستمرّ منذ خمس سنوات، وإبعادها عن خطة التقشف التي تلزمها بها أطراف "الثلاثية" (البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية)، والتي ألقت بثقلها على المسار الاجتماعي للشعب اليوناني. حمل تسيبراس رايات عودة أثينا إلی ما كانت عليه قبل الأزمة المالية في العام 2010، مستفيداً من أخطاء أسلافه من اليسار "الناعم" واليمين. قد تكون مغامرة صعبة لرجل وُلد بعد ثلاثة أيام من انتهاء الحكم العسكري اليوناني، في 28 يوليو/تموز 1974. لكنها مغامرة لا بدّ من خوضها، فالديون اليونانية تُستحقّ التضحيات، بعد خمس سنوات من الوضع الاقتصادي السيئ للغاية وتسريح العمال وإقفال مؤسسات عامة تاريخية (التلفزيون وصحف والراديو..).
ويبدو أن تسيبراس كان مستعداً لتلك الخطوة، اذ جهّز نفسه لتسلّم السلطة، منذ العام 2009. ترك مهنته الأساسية، الهندسة المدنية، وانصرف إلى التجوال في البلاد وجزرها. حسّن لغته الانكليزية، وبدأ بالتواصل مع القادة الأوروبيين. أدرك أن أي انتصار لـ"سيريزا"، عليه أن ينبع من تغيير الأفكار السائدة على وقع الأزمة. رفع تسيبراس شعارات حماسية يصفها البعض بـ"الشعبوية": "لا للتقشف بعد اليوم. سنردّ علاوات رأس السنة. الحدّ الأدنی للأجور سيعود إلى 751 يورو مجدداً". كان اليونانيين يحتاجون إلى سماع مثل تلك الوعود، وبدلاً من السماح لحزب يميني متطرف كـ"الفجر الذهبي" من الصعود على متن الأزمة الاقتصادية، سمحوا لـ"سيريزا" في ردّ الاعتبار للبلاد.
لا يريد اليونانيون، العودة إلی أزمنة النازية، يوم سمحت الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 1929، في اعتلاء أدولف هتلر السلطة في ألمانيا، وبقية القصة معروفة. عمد الناخبون اليائسون إلى تسليم قرارهم، بعد استنفاد كل الخيارات الأخرى، إلى تسيبراس، كخطوة أخيرة للعودة بالبلاد إلى سابق عهدها.
ما يطرحه تسيبراس، يتجلّى في ضخّ مبلغ 13 مليار يورو في السوق اليونانية، على شكل أجور وامتيازات، وهو ما أثار الذعر في أوروبا، التي تخشى من امكانية خروج اليونان من منطقة اليورو، ومن تداعيات فوز اليسار الراديكالي في أثينا، على كل القارة العجوز، بعد الصعود الرهيب لأحزاب اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية في الربيع الماضي.
لم يأتِ فوز تسيبراس بمثابة خبر عادي، لا في برلين وباريس فحسب، بل في موسكو ومينسك وبلغراد أيضاً. اذ عمدت وسائل الاعلام في تلك البلدان، إلى التركيز على قوة اليسار اليوناني، في ظلّ نَفَس ديني أورثوذكسي متصاعد، حتى ظنّ سكان روسيا وروسيا البيضاء وصربيا أن الانتخابات التشريعية اليونانية جزء من انتخابات متعلقة بهم. فالتيار الديني ينمو على وقع الوضع الاقتصادي السيئ في أوروبا عموماً، وفي شرقها خصوصاً.
لم ينسق تسيبراس في تلك الموجة، ولم يُغره اتصال التهنئة الذي تلقاه من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل أقسم اليمين الدستورية، من دون أداء اليمين الديني (على الانجيل)، كما اعتاد رؤساء وزراء اليونان أن يفعلوا، وذلك للمرة الأولى في تاريخ السياسة اليونانية. فأثينا برأي الشاب اليساري، ليست جبل أثوس، ملاذ الرهبان الأرثوذكس.
من الطبيعي أن المدى الجيوبوليتيكي لليونان سيتأثر بدوره بنتائج الانتخابات، مثل تركيا، التي تعتبر اليونان جزءاً من منظومة أوروبية عامّة رفضت دخول أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي. لكن تركيا ــ أردوغان، تعلم اليوم أن اليونان في وضعٍ دقيق أوروبياً، فكانت الحفاوة التركية في الترحيب بفوز اليسار الراديكالي، بمثابة جرس انذار اقتصادي للأوروبيين. وهذا يعني أن وضع جزيرة قبرص وشمالها، سيكون في حكم المؤجل حتى اشعار آخر، كون الأولوية حالياً في مكان آخر.
صربيا، التي استعرت فيها الموجة القومية أخيراً، ترى في "سيريزا" سنداً لمواجهة أوروبا، سواء في المسألة الاقتصادية أو في وضع كوسوفو. البوسنة والهرسك، التي لم يصل صوت تظاهراتها، في العام الماضي، إلى أبعد من ساراييفو، تجد في فوز "سيريزا" محفّزاً اضافياً لكسر الإرادة الأوروبية. وقد تسمح يسارية "سيريزا" مجدداً، في فتح الأبواب الصينية ، التي سبق أن عرضت خدماتها، من أجل معالجة المديونية اليونانية، لكن ألمانيا وقفت بالمرصاد لمحاولات الصين العام الماضي.
لم يشأ "سيريزا" مدّ اليد إلى الحزب الشيوعي اليوناني، الذي سبق له أن رفض التحالف معه في الانتخابات السابقة وفضّل اليمين عليه، جرياً على مبدأ عداوة الأحزاب الشيوعية عموماً تجاه اليسار الراديكالي، التروتسكي أو الماوي أو الأنارشي. فالسياسات الخاطئة للشيوعيين في اليونان، ساهمت في ضعضعة الصفوف اليسارية لتنزلق البلاد نحو الرأسمالية القصوى، التي أدّت إلى اهتزاز البنية الاقتصادية لأمة الاغريق. ومع أنهم لوحّوا بإمكانية التحالف مع "سيريزا" في الانتخابات الأخيرة، فإن تسيبراس ردّ الصاع صاعين للشيوعيين، ليحكم من دونهم.
المرحلة المقبلة أمام تسيبراس ستكون محفوفة بالمخاطر. جدولة الديون وإعادة التفاوض حول شروطها، حاجة أساسية لليونان. السياحة عصب مركزي لإعادة تنشيط قطاع الخدمات. أما الأهم فهو صياغة مستقبل سياسي جديد، قد يكون اليسار الراديكالي من أهم أعمدته. يعلم تسيبراس أن اليونانيون يعلقون أمالاً كبيرة عليه، حتى إن إحدى المواطنات أكدت أن "هناك الكثير من الأحاسيس، ونحن نريد أن نصدق بأن أليكسيس (تسيبراس) وفريقه لن يخذلونا". وفي رسالة داخلية وخارجية في آن واحد، زار تسيبراس بعد أداء اليمين جدار "كيسارياني" القريب من أثينا، حيث أُعدم 200 شيوعي رمياً بالرصاص في عام 1944 على يد النازيين والعسكر.
يدرك تسيبراس أن الناخبين الذين اختاروه لنجدة بلادهم، لا يرون فيه "اسكندر مقدونياً" آخر أو "قائد الـ300" الجديد في اسبارطة، بل بكل بساطة، يرون فيه رجلاً وعدهم بألا يناموا جياعاً، وأن يستيقظوا في اليوم التالي مفعمين بأمل الحياة. وفي حال خذلهم "سيريزا" وتسيبراس، فستكون مأساة لرجل صعد بقوة الصاروخ، ويتخذ من تشي غيفارا مثالاً له، إلى درجة تسمية ابنه، أرنستو.