اليمن.. المشهد الراهن والمآل البعيد

12 يناير 2016

مقاتل يمني في المقاومة الشعبية في تعز (15 ديسمبر/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
مع فشل مفاوضات جنيف الثانية بين أطراف الأزمة اليمنية في ديسمبر/ كانون الأول 2015، وكانت بوادر فشلها قد بدت قبل انطلاقها. وفي انتظار جولة ثالثة من مشاورات مزمع عقدها أواسط شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، تكون قد مرّت خمس سنوات على انطلاق حراك شباب اليمن، وأربع على تنحي علي عبدالله صالح، وسنة ونيف على سيطرة أنصار الله (الحوثيين) على صنعاء، وعشرة أشهر على انطلاق عملية عاصفة الحزم العسكرية.
وأمام توالي الأحداث، وتشعب التفاصيل، نحتاج إلى وقفة تأمل، لتفحص ما يجري، لاستكمال الصورة واستشراف المستقبل القريب، وتسليط الضوء على طبيعة الصراع الحاصل، وعلى السيناريوهات المحتملة للوضع الراهن. ذلك أن فهم تلك المستقبَلات سيكشف، ولو بأثر رجعي، صورة ما يحصل الآن، وما ينبغي اجتراحه من حلول غير اعتيادية، لتفادي السقوط في المآلات الأسوأ.
.. عربيا، كان من المتوقع أن ينطلق التغيير من صنعاء، بالنظر إلى سبقها في التحرك ضد نظام الفساد. فقبل خمسة عشر عاما تشكل مجلس التنسيق الأعلى للمعارضة، ثم تبعه تجمع اللقاء المشترك، فاحتجاجات الطلبة الرافضين للتوريث، غير أن اليمن، بما له من موقع استراتيجي خاص، لم يكن ليُسمح بالمغامرة به، ولو على نمط ما سيقع بعد ذلك في تونس ومصر. كما أن وضعه أعقد من أن يتم التعامل معه بالسيناريو البحريني. وكان السيناريو الأقرب له هو الليبي، ولكن من دون تغييب الرئيس، فقد تم الاحتفاظ لعلي عبد الله صالح بدور تكميلي يلعبه بعد حين، لم يكن للقذافي حظ أن يلعبه.

بحكم الجغرافيا، اليمن بلد خليجي، اكتسب أهميته الاستراتيجية من واجهته (2800 كلم) على البحر الأحمر وبحر العرب وخليج عدن، فهو البوابة الجنوبية لمدخل البحر الأحمر عبر باب المندب، ذي الأهمية الاستراتيجية الخاصة، والذي يربط البحر بالمحيط الهندي عن طريق خليج عدن، ليمر عبره يومياً أكثر من ثلاثة ملايين برميل نفط، إضافة إلى 21 ألف سفينة سنوياً، كما أن 10% من التجارة الخارجية الإسرائيلية لا تمر إلا عبره. وقبالة شواطئ الحُديدة وتعز، يمتد أرخبيل حنيش. وبحدود تقارب 2000 كلم يجاور الدولة النفطية الكبرى: السعودية. ويعني هذا كله أن أي تغيير في البنية السياسية للبلاد سيكون له انعكاس مباشر على أوضاع المملكة.
لم تخف السعودية معارضتها الحراك العربي. وبحكم الجوار، نال الحراك اليمني أكبر حظ من تلك المعارضة، وهو الذي ظل سلمياً على الرغم من دموية صالح، بغرض قصد جره إلى العسكرة في بلد ينتشر فيه السلاح كما ينتشر القات.
وبرعاية الرياض، قدمت دول الخليج في إبريل/ نيسان 2012 "المبادرة الخليجية": يتنحى بمقتضاها الرئيس، في مقابل حصوله على الحصانة، ويتسلَّم نائبه السلطة، ليحضّر الأجواء لدستور جديد وانتخابات رئاسية. تبعا لذلك، توقف الحراك ليسمح للمبادرة أن تتم. وتمايزت في تلك اللحظة "قوى الشد المتعاكسة الأساسية": جماعة أنصار الله (الحوثيون) وأتباع علي عبد الله صالح من جهة. ثم أتباع الرئيس عبد ربه منصور هادي، وحزب التجمع اليمني للإصلاح، من جهة ثانية.
في أجواء مشحونة، انطلق الحوار الوطني في العاصمة صنعاء، أواسط مارس/ آذار 2014، ثم انتهى أواخر يناير/ كانون الثاني 2015، في أجواء أكثر توتراً، فقد أعلن "أنصار الله" رفضهم الفيدرالية، ثم مسودة الدستور الجاري إعدادها.

مخرجات على الرف وتناقضات في الميدان
سينعكس موقف الرياض وأبو ظبي من الوضع في مصر على طبيعة تعاطيهما مع الشأن اليمني: فقد توترت علاقتهما بآل الأحمر وحزب الإصلاح . فشرعت الإمارات في دعم صالح، وعُيّن نجله ﺃﺣﻤﺪ سفيراً لليمن لديها، ومكنته من إدارة مشاريع استثمارية بمليارات الدولارات، فيما كان والده يحشد داخلياً ولاءات القبائل وقيادات الجيش. بل حامت شكوك قوية بعد ذلك، حول الدور الإماراتي في دعم "أنصار الله"، بعد أن أبدى مساعد وزير الخارجية الإيراني استغرابه من دعم الإمارات بالذات السعودية في الحرب ضد الحوثيين.
استغل "أنصار الله" حالة الاحتقان الشعبي، بسبب الزيادة المفاجئة في أسعار الوقود، فتحركوا نحو صنعاء، من دون مواجهة تذكر. وبدأت المواقع العسكرية والمدنية تنهار أمامهم واحدة تلو أخرى. وكان اللواء 310 هو المعوّل عليه في المواجهة، إلا أنه ظل مرابطاً في مدينة عمران شمالي صنعاء، من دون أي إمداد، فهزم أمام الحوثيين وقوات على عبد الله.
ويثبت تقرير عسكري يمني، نشر على نطاق واسع، أن وفداً دبلوماسياً تحرّك، قبيل سقوط صنعاء بأيام، انطلاقا من مقر السفارة الإيرانية في صنعاء، مؤلفاً من السفير الإيراني، والملحقين العسكريين الأردني واللبناني، إلى جانب قادة حوثيين، حيث رافقته قاطرة تحمل أسلحة وذخائر، تم صرفها من مخازن وزارة الدفاع وتفريغها في قرية القابل المحاذية للعاصمة والخاضعة للقوات الحوثية. بعد تلك الزيارة بأيام، وعقب معركة شرسة، سقطت مدينة عمران، ثم تبعتها صنعاء يوم 21 سبتمبر/أيلول 2014، لكن من دون مقاومة. وابتهج الإيرانيون بما سماه علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد علي خامنئي، "انتصار إيران باليمن"، وأفصحوا فوراً عن عزمهم إقامة استثمارات كبرى على باب المندب.
أصبح الرئيس هادي محاصراً في إقامته، والحوثيون يسيطرون على القصر الرئاسي والإدارات المحلية والقطاعية. غدوا القوة السياسية والإدارية والعسكرية الأولى في البلاد. وحاول هادي تشكيل حكومة لتسيير الأعمال، غير أنه فشل فاستقال، ثم توجه إلى عدن، فأذاعت جماعة أنصار الله "الإعلان الدستوري"، وحلت البرلمان، وعيّنت "اللجنة الثورية" لتسيير البلاد. وبعد شهر، تراجع الرئيس هادي عن استقالته، في ارتباك، لم يحفل به الحوثيون الذين مضوا في تسيير البلاد، باعتبارهم "الجهة الشرعية". فوقّعوا مع إيران مذكرة تفاهم تقضي بتسيير 28 رحلة جوية بين صعدة وطهران. وبدعم لوجستي من الرئيس السابق علي عبدالله صالح، تقدمت قوات الحوثيين إلى عدن، وأخذت تقصف القصر الرئاسي هناك.
توفي الملك عبد الله بن عبد العزيز في السعودية، وجاء الملك سلمان. ومع فجر يوم 26 مارس/آذار 2015، بدأت 180 طائرة سعودية وعربية تقصف مواقع "أنصار الله"، بدعم لوجستيكي أميركي وبريطاني وفرنسي وتركي، في عملية "عاصفة الحزم" التي تندرج ضمن ما يسمى "التدخل العسكري الإنساني" الذي يهدف إلى إضعاف مرتكبي العنف، ودفعهم نحو التفاوض. لذلك، كانت بيانات الناطق الرسمي باسم "التحالف العربي" تحاول أن تظل منسجمة مع هذه الطبيعة.
فرح المناوئون لإيران، واعتبروا العملية بطولة وإقداما، وندد المناوئون للسعودية، وعدّوا ذلك ظلماً وعدواناً وبعيداً عن هذا التوصيف أو ذاك، فقد رفع التدخل العسكري السعوديُّ الحساسيةَ الطائفية بشكل غير مسبوق، حتى إن أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، صرّح أن "هادي لن يعود أبداً إلى كرسي الرئاسة"، وعكست هذه العبارة مدى المراهنة الطائفية لإيران، وحلفائها في المنطقة، على الدور السياسي والعسكري الذي يقوم به "أنصار الله"، في مقابل المراهنة الطائفية المعاكسة، والتي تحاول السعودية تحقيقها في حشدها دولاً "سنية".

من العاصفة إلى التقسيم
مع أول هجوم جوي، قضت السعودية على "امتياز الوساطة" التي كانت تتمتع به بين الأطراف اليمنية، واكتسبت، مقابل ذلك، صفة "طرفٍ في النزاع"، كما قطعت طريق العودة إلى المبادرة الخليجية، ثم أحرقت مخرجات الحوار الوطني.
فبعد أن كان السقف السياسي "المعلن" للحوثيين لا يتعدّى المشاركة في "حكومة وحدة وطنية"، لن يكون طموحهم بعد "العاصفة" أقل من حكم ذاتي في إطار تسوية سياسية، ستكون إيران من ضمن الرعاة الدوليين لها، خصوصاً وأن الأرضية القانونية التي كان يمكن البناء عليها، وتتجلى في قرار الأمم المتحدة 2216، هي القرار نفسه الذي يوصي بفرض الحظر على قيادات "أنصار الله" وصالح، ما سيمثل إشكالا مرجعيا قبل أي تفاوض جدي مقبل. وخاضت جماعة "أنصار الله" حرباً شرسة ضد "التحالف العربي"، ودل مستوى أدائها الحربي على أنها تحولت من مجرد جماعة مسلحة إلى جيش شبه نظامي، من عتاده صواريخ باليستية. وستكون تكلفة العملية العسكرية مرتفعة، من حيث الخسائر البشرية، فقد وصلت إلى ما يفوق  30 ألف قتيل من اليمنيين، وفي الأثناء، تمكنت جماعة أنصار الله من ضرب ما خلف الحدود السعودية، وخصوصاً مدينتي جيزان ونجران. 
وبسقوط صنعاء، وانهيار الدولة اليمنية، وتقوية "أنصار الله"، تكون السعودية قد حققت ما يمكن أن نسميه، استلهاما من الكاتب منصور المرزوقي، "استراتيجية الدعم النسقي" للثورة اليمنية، فقد دعمت الحراك لتحقيق احتوائه، بعد أن تبنت مطالبه في التغيير، ثم غذّت عوامل نسفه من الداخل، فأعادت إنتاج واقع هو أبعد ما يكون عن إرهاصات دولة يمنية ديمقراطية وموحدة.
وفي لحظة نادرة من لحظات تاريخ الصراع السعودي الإيراني، التقت إرادة البلدين على غير موعد سابق، فتوافقت إرادة احتواء ثورة التغيير لدى الأولى، بإرادة التمكين الطائفي لدى الثانية، غير أن طبيعة المعركة ورهاناتها اختلفت لدى كل منهما، فالرياض تدير المعركة باعتبارها رهاناً "لتقليص التهديدات" وتفادي المخاطر، في حين تديرها طهران باعتبارها رهاناً "لاستثمار الفرص" وتحقيق المكاسب. وتتجلى المفارقة الثانية بينهما على مستوى آخر، فالسعودية تعاملت في سنوات "الربيع العربي" بمنطق من ثلاثة أركان: "تأمين الداخل ضد الثورات، وتأمين الأنظمة الحليفة ضد السقوط، ومكافحة تقدم مصالح الأنظمة المنافسة". وبذلك، تمكنت من الحفاظ على "الانسجام البراغماتي" لمواقفها، ابتداء من محاربتها التغيير في تونس ومصر والبحرين، ودعمها الثورة السورية، ثم الثورات المضادة بعد ذلك.

وفي اليمن، ربما تكون الرياض قد حققت هدف "حماية مجالها الداخلي" إلى حين، كما أمنت "نظاماً يمنياً حليفا"، من المرتقب أن يقوم على أنقاض هذه الفوضى، غير أنها خسرت، في مقابل ذلك، هدف "مكافحة مصالح النظام المنافس"، فإيران ستكسب، جرّاء تداعيات كل هذه المرحلة، كياناً سياسياً طائفياً يدين لها بالولاء.
وتتجلى المعضلة الكبرى بالنسبة للرياض، في تقاطع الإرادة الإيرانية بالإرادة الأميركية: فكلاهما يرغب، ولو بخلفيتين مختلفتين، في إقامة "هلال شيعي جديد" يمتد من الشرق والجنوب الشرقي (القطيف والأحساء) السعودي إلى الشمال الغربي اليمني (صعدة)، فالرؤية الأميركية لـ"الشرق الأوسط الكبير" التي طرحتها بعد سنة من احتلال العراق، تتوافق مع تقرير الجنرال المتقاعد رالف بيترز سنة 2006 "من أجل شرق أوسط أفضل"، فكلاهما يقضي باستحداث حدود ودويلات جديدة، تراعي الأقليات العرقية والطائفية في المنطقة، على أنقاض حدود اتفاقية سايكس بيكو التي أكملت هذه السنة مدتها "القانونية" وهي مائة سنة. وهو ما يتوافق، جزئياً، مع ما ترغب فيه إيران أخيراً، من منافسة السعودية في رمزيتها الدينية.
يُضاف إلى ذلك كله عامل جانبي قوي، يتجلى في السعي الإسرائيلي الدائم، إلى تدويل باب المندب، حتى لا يبقى ضمن مجالات الصراعات الإقليمية، بالتعاون مع إريتريا وإثيوبيا، كجزء من مساعيها إلى تحقيق التأمين الدولي للمجرى الملاحي في خليج عدن وسواحل الصومال.
وإذا ما سارت الأمور على ما هي عليه إلى آخر مطافها، فربما لا يكون للحالة اليمنية ترف تعدد السيناريوهات، فهناك خشية حقيقية من أن يكون الوقت قد فات، لتجاوز ما أقرّه واضعو "خرائط تقسيم" المنطقة، حيث لليمن نصيب كبير منها، فالمناخ الإقليمي لا يساعد على إيجاد حل مثالي، إذ يسير في اتجاه مزيد من الاضطراب والصراع، حتى غدا في المنطقة نوعان من الكيانات فقط، مضطرب ومرشح للاضطراب.
ستظل جماعات العنف العابرة للقارات عامل استفزاز لمزيد من الاستقطاب الطائفي والعرقي، وقد استفادت من واقع الصراع، لتتمدد أكثر وتتهيأ للمرحلة المقبلة. أما القوى الوطنية التي يُعوّل عليها عادة لحلحلة النزاعات الداخلية، فهي مرتهنة لدى القطبين الخارجيين: طهران والرياض.
وما يجعل الشأن اليمني مركباً حد التعقيد أن ما شهده وسيشهده من تطورات لاحقة لتسكين الصراع بين الأطراف المتنافسة إنما هو جزء من مشهد شامل ضمن "استراتيجية تجديد آليات تحكم" الولايات المتحدة في منابع الطاقة، ومعابرها وأسواقها. إذ تدل المؤشرات والدراسات الجيوستراتيجية، ومنها دراسة "توقعات الطاقة العالمية" وأنجزتها إدارة معلومات الطاقة الأميركية (U.S Energy Information Administration, International Energy Outlook 2010, p.37.) ، تدل على أن هاجس حصول الولايات المتحدة على الطاقة، وفي مقدمتها النفط والغاز، سيرتفع ابتداء من سنة 2015، حتى أفق 2050 ليصل إلى زيادة بنسبة 10%. كما أن اعتمادها على الاستيراد الخارجي سيمثل الثلثين، بحسب تقرير "السياسة الوطنية للطاقة" الذي أنجزته "المجموعة الوطنية للتنمية" (National Energy Policy, "Report of National Energy Policy, National Energy Policy Development Group", Washington DC, Mai 2001. P. X )، وهو ما سينعكس، لا محالة، على ارتفاع مراهنتها على التحكم في تدبير النفط، عكس ما تروجه بعض منابرها الإعلامية، لأغراض التسويق السياسي المعروفة.
بطبيعة الحال، ليست تقارير الولايات المتحدة وخططها قدرا مقدوراً. ولكن، باستطاعة تلك المخططات أن تتحول إلى واقع لا مفر منه، كلما غفلت عنها قوانا السياسية من حاكمين وفاعلين، وشاركت في دعمها وتنفيذها، عن وعي وإرادة، أو عن تجاهل وإذعان.

B9024743-039D-4BA4-B2E1-AA4C5AE0BFD7
ماهر الملاخ

إعلامي وكاتب وباحث مغربي في السيميائيات